أفغانستان بلا صوت.. كيف قضت طالبان على حرية الإعلام وأخفت الحقيقة خلف ستار الخوف؟
أفغانستان بلا صوت.. كيف قضت طالبان على حرية الإعلام وأخفت الحقيقة خلف ستار الخوف؟
منذ عودة حركة طالبان إلى السلطة في أغسطس عام 2021، شهدت أفغانستان انهيارًا متسارعًا في منظومة حرية الإعلام وحرية التعبير، حتى باتت البلاد اليوم، كما وصفتها منظمة هيومن رايتس ووتش، بلدًا بلا صوت.
التقرير الجديد الصادر على موقع المنظمة في نسخته الإنجليزية اليوم الخميس يؤكد أن ما حدث خلال السنوات الأربع الماضية لم يكن مجرد تراجع في الحريات، بل عملية منهجية متكاملة لإسكات كل رأي حر وتجفيف منابع الحقيقة، ومن خلال سيطرة أجهزة الاستخبارات ووزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أصبحت كل كلمة تُنشر أو تُذاع تمر عبر غربال الخوف، حتى غدت الرقابة الذاتية قاعدة، والصمت وسيلة للبقاء.
يصف التقرير كيف تحولت الصحافة في أفغانستان إلى مهنة محفوفة بالمخاطر، في عهد حركة طالبان فالصحفيون، رجالًا ونساء، يواجهون الاعتقال التعسفي والضرب والإهانة والملاحقة لمجرد طرح سؤال أو نقل رواية تختلف عن رواية السلطة، بعضهم تعرض لتعذيب وحشي وصل إلى كسر العظام والأسنان، وآخرون أُجبروا على توقيع تعهدات بعدم ممارسة المهنة مجددًا مقابل إطلاق سراحهم، وهكذا، فقدت البلاد العشرات من مؤسساتها الإعلامية التي أغلقت أبوابها أو هاجرت طواقمها إلى الخارج، فيما يعيش المئات من الصحفيين في المنفى داخل تركيا وباكستان بلا إقامة قانونية أو حماية، مهددين بالترحيل إلى بلد لم يعد آمنًا لهم.
العمل تحت تهديد دائم
الرقابة المفروضة على الإعلام لا تقتصر على المضمون السياسي، بل تمتد إلى اللغة والمفردات والرموز، فقد فرضت طالبان على وسائل الإعلام استخدام تعبير الإمارة الإسلامية بدلًا من اسم الحركة، ومنعت التصوير في الأماكن العامة بحجة أنه مخالف للشريعة، كما تم تقييد ظهور النساء على الشاشات، ومنع بث الموسيقى والبرامج الثقافية، ما جعل المشهد الإعلامي الأفغاني أحادي الصوت، خاليًا من التنوع أو النقد أو الحوار، وهذه الإجراءات جعلت الصحفيين يعملون تحت تهديد دائم، وأجبرتهم على الاكتفاء بنشر البيانات الرسمية أو المواد الدعائية التي توافق عليها السلطات.
النساء الأكثر تضررًا
وفي جانب آخر من الصورة، يشير التقرير إلى أن النساء هن الأكثر تضررًا من هذا الواقع القاتم، فبعد أن كانت الصحفيات الأفغانيات يمثلن وجهًا بارزًا لمرحلة ما بعد عام 2001، أصبحت مشاركتهن شبه معدومة اليوم، فالكثير منهن مُنعن من دخول مقار عملهن، وأخريات تعرضن للمضايقة أو الاعتقال لمجرد استمرارهن في العمل، ومع تقييد التعليم وإغلاق المدارس والجامعات أمام الفتيات، يتقلص حضور المرأة في المجال العام، وتُغلق الأبواب أمام جيل كامل من الإعلاميات الشابات اللائي كن يمثلن رمزًا للتغيير.
وتنعكس هذه السياسات القمعية على المجتمع الأفغاني بأسره، فغياب الإعلام الحر يعني غياب الشفافية والمساءلة، وانتشار الخوف والرقابة الذاتية، وتفاقم الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، ويؤكد خبراء الأمم المتحدة أن قمع حرية التعبير في أفغانستان ليس قضية تخص الصحفيين وحدهم، بل أزمة تمسّ كل مواطن، لأن الإعلام هو القناة التي تُنقل من خلالها معاناة الناس ومطالبهم، وفي ظل الصمت المفروض، تتزايد عزلة البلاد عن العالم، ويُحرم الأفغان من رواية قصصهم أو الدفاع عن حقوقهم.
انتهاكات موثقة
وقد أعربت منظمات دولية عدة، من بينها اللجنة لحماية الصحفيين ومراسلون بلا حدود، عن قلقها العميق إزاء تدهور الأوضاع، وهذه المنظمات وثّقت انخفاض عدد وسائل الإعلام في أفغانستان من أكثر من 500 وسيلة قبل عام 2021 إلى أقل من 170 حاليًا، فيما فقد أكثر من 70 بالمئة من الصحفيين وظائفهم، ووفقًا لتقديرات أممية، هناك ما لا يقل عن 300 حالة اعتقال أو احتجاز لصحفيين منذ عودة طالبان، بينهم عشرات النساء، أما الإنترنت، الذي كان المتنفس الوحيد للإعلاميين، فقد صار بدوره ساحة مراقبة، مع تكرار حالات قطع الخدمة وحجب المواقع المستقلة.
إلى رؤية أيديولوجية
وتستند هذه الممارسات إلى رؤية أيديولوجية تعتبر الإعلام المستقل تهديدًا للنظام القائم، فحركة طالبان ترى في الكلمة الحرة خروجًا على الشرعية الدينية والنظام العام، ما جعلها تستخدم خطابًا دينيًا لتبرير تكميم الأفواه، وفي المقابل، تردّ المنظمات الحقوقية بالتأكيد على أن هذه الانتهاكات تمثل خرقًا واضحًا للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يكفل لكل إنسان حقه في التعبير وتلقي المعلومات، وتُعد هذه الحقوق من الالتزامات القانونية الدولية التي لا تسقط حتى في أوقات الأزمات أو الحروب.
مطالب حقوقية
المجتمع الدولي، بدوره، يواجه اختبارًا صعبًا في التعامل مع هذه الأزمة. فبينما تصدر الإدانات المتكررة من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، لا تزال الخطوات العملية محدودة. طالبت هيومن رايتس ووتش دول العالم بوقف عمليات ترحيل الصحفيين الأفغان ودعم مشاريع الإعلام المستقل في المنفى، كما دعت إلى ربط أي تواصل سياسي أو اقتصادي مع طالبان بتحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان، ومع ذلك، يبدو أن الاهتمام العالمي يتراجع تدريجيًا مع تزايد أزمات أخرى في المنطقة، تاركًا الصحفيين الأفغان وحيدين في مواجهة آلة القمع.
تاريخيًا، شهدت أفغانستان فترات متباينة من حرية الصحافة والإعلام فبعد سقوط نظام طالبان عام 2001، عاشت البلاد طفرة إعلامية غير مسبوقة، إذ ظهرت مئات الإذاعات والقنوات والصحف التي ساهمت في تشكيل رأي عام متنوع ونشط، لكن تلك التجربة سرعان ما تلاشت بعد عام 2021 مع عودة الحركة، لتبدأ مرحلة من الانكماش الإعلامي والرقابة والتخويف، وهذا التحول التاريخي يعبّر عن مسار أعمق من مجرد تبدّل في السلطة، بل عن صراع بين نموذجين للحكم: أحدهما يقوم على الانفتاح والتعدد، والآخر يختزل المجتمع في صوت واحد هو صوت السلطة.
اليوم، يقف الإعلام في أفغانستان على حافة الانقراض المهني، فالمراسلون الذين كانوا يملؤون الشوارع لتغطية القصص اليومية صاروا يختبئون خوفًا من الملاحقة، والقنوات التي كانت تبثّ برامج نقاشية حية صارت تكتفي بأخبار حكومية باهتة، وما لم يتخذ المجتمع الدولي خطوات جادة لحماية ما تبقى من الصحفيين وتمكينهم من العمل بحرية، فإن البلاد ماضية نحو ظلام إعلامي كامل، وكما حذّرت هيومن رايتس ووتش، إذا لم يُتحرك الآن، فستتحول أفغانستان إلى وطن بلا ذاكرة وبلا رواية، حيث تختفي الحقيقة تحت الركام، وتبقى الكلمات أسيرة الخوف.











