بحثاً عن العدالة المفقودة.. شرطة لندن تعيد فتح ملفات 9 آلاف قضية استغلال أطفال

بحثاً عن العدالة المفقودة.. شرطة لندن تعيد فتح ملفات 9 آلاف قضية استغلال أطفال
شرطة لندن - أرشيف

في خطوة غير مسبوقة وموغلة في الحساسية، أعلنت شرطة العاصمة البريطانية لندن عن خطة شاملة لإعادة فتح تسعة آلاف قضية تتعلق باستغلال الأطفال، ضمن مراجعة واسعة النطاق لملفات ما يعرف بعصابات الاستدراج التي استغلت فتيات قاصرات في مختلف أنحاء المدينة خلال الخمسة عشر عامًا الماضية.

 القرار جاء استجابةً لضغوط الرأي العام بعد تحقيقات أوردتها صحفية صحيفة "ذا ستاندرد" البريطانية الجمعة، كشفت عن إخفاقات عميقة في تعامل السلطات مع مئات القضايا التي لم تنل ما تستحقه من تحقيق وعدالة، تاركةً وراءها جيلاً من الضحايا المكلومين والعائلات التي لم تبرأ جراحها بعد.

جذور الأزمة 

القضية انفجرت مجددًا بعد تحقيق موسع لصحيفة “ذا ستاندرد” التي نشرت شهادات مروعة لفتيات صغيرات تعرضن للاغتصاب الجماعي من قبل رجال بالغين دون أن تتحرك الشرطة بالسرعة والحزم اللازمين، وبعض تلك القضايا أُغلق لأسباب إجرائية أو لغياب الأدلة، في حين فشلت محاكمات أخرى نتيجة تقاعس في جمع المعلومات أو التعامل غير اللائق مع الضحايا. 

هذه الفضائح المتكررة دفعت مفوض شرطة لندن السير مارك رولي إلى الإعلان عن مراجعة جذرية تطول جميع ملفات قضايا الاستغلال المسجلة منذ عام 2010 وحتى اليوم، مؤكداً أن الشرطة ستعيد فحص كل حالة لتحديد فرص التحقيق المهدرة أو الأدلة التي أغفلت في السابق.

وقال رولي في رسالة رسمية لعمدة لندن صادق خان إن العملية تهدف إلى استعادة ثقة المجتمع وتحقيق العدالة المتأخرة، مشيرًا إلى أن الفريق المختص سيقيّم القضايا حتى اكتمال المراجعة بحلول عام 2026، وأوضح أن التحقيق سيشمل كذلك القضايا الحديثة التي كشفت عنها وسائل الإعلام، وأن الهدف هو الوصول إلى منظومة إنفاذ قانون أكثر إنصافًا وإنسانية.

بين الاستغلال والصمت

من بين القصص التي فجرت موجة الغضب العام قضية أوليفيا، وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها وُجدت في أحد فنادق لامبيث عام 2022 تحت تأثير المخدرات بصحبة ستة رجال بالغين، ورغم وضوح المؤشرات على تعرضها للاغتصاب والتصوير القسري، لم تُتخذ بحق الجناة إجراءات فورية، وأظهر تقرير رسمي أن أوليفيا كانت عرضة للاستغلال منذ الثالثة عشرة، وأنها أبلغت مرارًا عن مضايقات واختفاءات متكررة دون تدخل فعال من الشرطة أو الرعاية الاجتماعية.

أما كلوي، وهي فتاة أخرى فقدت حياتها انتحارًا بعد خمس سنوات من استغلالها الجنسي المتكرر، فقد تحولت قصتها إلى رمز للفشل المؤسسي في حماية الأطفال، وأظهرت التحقيقات أنها كانت معرّضة للخطر منذ سن الحادية عشرة، لكن الجهات المختصة اكتفت بتقارير متفرقة دون خطة حماية حقيقية، وفي كرويدون، واجهت الطفلة مارا المصير ذاته عندما عُثر عليها بعد اختفائها برفقة رجلين بالغين، لكنها أُعيدت إلى دار الرعاية بعد تأخير طويل دون ملاحقة واضحة للجناة.

هذه القصص، كما تقول المنظمات الحقوقية البريطانية، ليست استثناءات بل تعبير عن نمط ممتد من التراخي المؤسسي في التعاطي مع البلاغات المتعلقة بالاعتداءات الجنسية على القاصرين.

غضب حقوقي ومساءلات أممية

أثارت الخطوة الأخيرة لشرطة لندن جدلاً واسعًا بين منظمات المجتمع المدني والهيئات الدولية المعنية بحقوق الطفل. فقد رحبت منظمة "بارناردوز" البريطانية المختصة بحماية الأطفال بقرار المراجعة، لكنها اعتبرت أن حجم القضايا المعاد فتحها يعكس إخفاقًا ممنهجًا على مدى سنوات طويلة، مطالبةً بتعويضات عادلة للضحايا الذين عانوا الإهمال المزدوج من المعتدين ومن المؤسسات الرسمية على حد سواء.

من جانبها، وصفت منظمة العفو الدولية ما كشفته التحقيقات بأنه "إخفاق إنساني خطير"، ودعت الحكومة البريطانية إلى إنشاء هيئة مستقلة تشرف على متابعة المراجعة وتضمن عدم تكرار ما حدث، كما أصدرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بيانًا عبّرت فيه عن قلقها العميق إزاء تقارير الاستغلال المتزايدة في بريطانيا، مشيرةً إلى أن أي دولة ديمقراطية يجب أن تضمن حماية الأطفال بوصفها أولوية لا يمكن التهاون فيها.

وفي بروكسل، شددت المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان على أن حماية القاصرين من العنف والاستغلال "ليست مجرد التزام أخلاقي، بل واجب قانوني" منصوص عليه في اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عام 1989، والتي تُلزم الدول الأعضاء بتوفير بيئة آمنة وسبل إنصاف فعالة.

وتظهر البيانات الرسمية تفاوتًا كبيرًا بين ما تسجله الشرطة وما ترصده السلطات المحلية من حالات إساءة معاملة الأطفال، إذ بلغت نسبة الاعتداءات الجنسية الموثقة في شرطة العاصمة 2.77 حالة لكل ألف طفل، مقابل 1.3 لدى البلديات، ما يشير إلى فجوة خطيرة في آليات الرصد والتبليغ. كما تؤكد تقارير حكومية وجود تداخل متزايد بين عصابات استغلال الأطفال وعصابات الاتجار بالمخدرات، حيث يُجبر القاصرون على نقل المواد المخدرة مقابل المال أو الحماية، ما يجعلهم أكثر عرضة للعنف الجنسي والاستغلال الإجرامي.

ويرى خبراء اجتماعيون أن جذور الأزمة تعود إلى تراجع الاستثمار في قطاع حماية الطفولة في العقد الأخير، إضافة إلى الضغوط الاقتصادية التي دفعت مراكز الرعاية إلى خفض أعداد الموظفين المؤهلين، كما أسهمت الوصمة الاجتماعية المرتبطة بضحايا الاعتداءات في صمت العديد من الفتيات اللواتي لم يبلغن خوفًا من اللوم أو التشهير.

ضغوط سياسية وتحقيقات

يواجه عمدة لندن صادق خان ضغوطًا متزايدة لاتخاذ إجراءات عاجلة ضد عصابات الاستدراج، في ظل مطالبات برلمانية بتوسيع التحقيق ليشمل أداء النيابة العامة وأجهزة الرعاية الاجتماعية، وأكد مصدر مقرب من مكتب العمدة أن خان طالب بالشفافية الكاملة ونشر نتائج التحقيقات للرأي العام، مشددًا على ضرورة إعادة بناء الثقة بين الشرطة والمجتمع.

في المقابل، دعا نواب من حزب العمال إلى تخصيص موارد إضافية لإنشاء وحدات متخصصة في التحقيق بجرائم الاستغلال الجنسي للقاصرين، في حين انتقدت جمعيات نسوية ما وصفته بـ"ثقافة الشك بالضحايا"، مشيرةً إلى أن كثيرًا من الفتيات جرى التعامل معهن بوصفهن مذنبـات لا ضحايا.

وراء الأرقام والملفات القانونية، تمتد مأساة إنسانية لا يمكن قياسها بالإحصاءات، فكل قضية تحمل وجهاً صغيراً انهارت طفولته تحت وطأة الخوف والإهمال، تقول إحدى الناجيات التي فضلت عدم ذكر اسمها إنها لم تكن تبحث عن الانتقام، بل فقط عن الاعتراف بما حدث، وتضيف أن أكثر ما يؤلمها الصمت الذي تلا الحادثة، وتعكس هذه الشهادات جوهر المأساة التي يسعى التحقيق الجديد إلى معالجتها بعد سنوات من التجاهل.

نحو عدالة متأخرة

تدرك شرطة لندن أن مراجعة تسعة آلاف قضية ليست مجرد إجراء إداري، بل اختبار حقيقي لقدرة العدالة البريطانية على تصحيح أخطائها التاريخية، وفي ختام بيانه، قال المفوض مارك رولي إن الشرطة تسعى إلى إعادة الكرامة للضحايا الذين لم يُصدقوا في الماضي، مؤكدًا أن حماية الأطفال ستكون من الآن أولوية لا مساومة فيها.

يُعرف مصطلح "عصابات الاستدراج" في بريطانيا بأنه وصف لشبكات إجرامية تستهدف الفتيات القاصرات لاستغلالهن جنسيًا عبر الإغراء والهدايا ثم الإكراه والعنف، وقد برزت هذه الظاهرة في مدن بريطانية عدة منذ مطلع الألفية، وأدت إلى سلسلة من الفضائح التي هزت الرأي العام، أبرزها في مدينتي روذرهام وروتشديل، حيث كُشف عام 2014 عن استغلال أكثر من 1400 فتاة على مدى سنوات دون تدخل فعال من الشرطة.

منذ ذلك الحين، اتُخذت إصلاحات متعددة في سياسات حماية الطفولة، لكن التقارير الأخيرة تشير إلى أن المشكلة لا تزال قائمة بصور مختلفة، ووفق بيانات وزارة الداخلية البريطانية لعام 2024، سُجل أكثر من 16 ألف بلاغ يتعلق باستغلال أطفال، بزيادة قدرها 12 في المئة عن العام السابق، ما يسلط الضوء على اتساع الظاهرة وخطورة تجاهلها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية