بين الاكتظاظ والإهمال.. أخطاء الإفراج عن السجناء تثير قلقاً حقوقياً في بريطانيا

بين الاكتظاظ والإهمال.. أخطاء الإفراج عن السجناء تثير قلقاً حقوقياً في بريطانيا
أحد السجون في بريطانيا- أرشيف

تشهد بريطانيا حالة من الجدل والقلق بعد ارتفاع غير مسبوق في عدد السجناء الذين أُفرج عنهم بالخطأ خلال العام الجاري، في مؤشر خطير يعكس أزمة هيكلية داخل منظومة العدالة الجنائية البريطانية.

فوفقًا لبيانات رسمية صادرة عن إدارة السجون والمراقبة الملكية، أوردتها صحيفة "ستاندرد"، الأحد، ارتفع عدد حالات الإفراج الخاطئ حتى مارس 2025 إلى 262 حالة، مقارنة بـ115 حالة فقط في العام السابق، أي بزيادة تفوق الضعف خلال عام واحد.

ورغم أن التقرير الحكومي شدد على أن هذه الحالات نادرة، فإن تصاعدها بهذا الشكل المفاجئ يثير تساؤلات حول مدى جاهزية النظام القضائي والإداري البريطاني للتعامل مع ضغوط الاكتظاظ في السجون والإصلاحات القانونية الأخيرة.

الإفراج المبكر تحت المجهر

يربط التقرير الارتفاع الأخير ببرنامج الإفراج المبكر الذي أطلقه حزب العمال في سبتمبر 2024، والذي سمح بخروج آلاف السجناء قبل انتهاء نصف المدة القانونية، لتخفيف الضغط الناتج عن الاكتظاظ المتزايد في السجون البريطانية.

وقد خُفضت فترة العقوبة الواجب قضاؤها خلف القضبان من 50% إلى 40%، وهو ما أدى، بحسب مراقبين، إلى إرباك في حساب المدد القانونية لبعض السجناء، وحدوث أخطاء في التنفيذ.

كما أشار التقرير إلى أن جزءًا من السجناء أُفرج عنهم بالخطأ بسبب ثغرات قانونية تتعلق بجرائم خرق أوامر تقييد تم إلغاؤها لاحقًا، وتمت إعادة معظمهم فور اكتشاف الخطأ، إلا أن عددًا محدودًا تمكن من مغادرة السجن دون متابعة فورية، مما تسبب في قلق بالغ لدى الرأي العام.

تداعيات أمنية وإنسانية

القلق الأمني تضاعف عقب حادثة الإفراج الخاطئ عن اللاجئ هدوش جيربيرسلاسي كيباتو، المدان بالاعتداء الجنسي على امرأة وفتاة قاصر.

فقد أثار الحادث احتجاجات واسعة في مقاطعة تشيلمسفورد، حيث اعتبره كثيرون دليلاً على "ثغرات قاتلة" في آليات مراجعة ملفات السجناء قبل الإفراج عنهم.

وقالت النائبة ماري جولدمان، عن المقاطعة ذاتها، إن "هذه ليست مشكلة عرضية يمكن التغاضي عنها، بل هي مؤشر على خلل منهجي يستدعي مراجعة عاجلة للسياسات العقابية والإدارية".

وفي المقابل، أصدرت إدارة السجون البريطانية بيانًا أكدت فيه أنها "تعمل بشكل عاجل مع الشرطة لإعادة الجاني إلى الحجز"، مشيرة إلى أن حماية الجمهور هي أولوية قصوى، وأن تحقيقًا موسعًا فُتح لتحديد المسؤوليات.

أزمة في نظام السجون

تشير تقارير متعددة صادرة عن منظمات بريطانية معنية بالعدالة الجنائية إلى أن السجون في بريطانيا تواجه أزمة مزمنة من الاكتظاظ ونقص الكوادر، ما يؤدي إلى ضغوط كبيرة على العاملين وزيادة الأخطاء التشغيلية.

ووفقًا لإحصاءات هيئة التفتيش الملكية على السجون، يبلغ عدد السجناء في إنجلترا وويلز حاليًا أكثر من 88 ألف سجين، بينما تبلغ القدرة الاستيعابية القصوى نحو 81 ألفًا فقط.

ويؤكد خبراء العدالة أن هذا الفارق المستمر بين الأعداد والطاقة التشغيلية يُفاقم الضغط على السجانين وموظفي الإدارات، ويجعل الأخطاء الإدارية أكثر احتمالًا، خاصة في ظل تسارع القرارات السياسية لتخفيف الاكتظاظ.

ردود فعل حقوقية

أبدت منظمات حقوقية دولية، منها منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، قلقها من أن "تتحول سياسات الإفراج العشوائي إلى تهديد لأمن المجتمع"، لكنها شددت في الوقت ذاته على ضرورة معالجة الأسباب الجذرية للأزمة بدلًا من التركيز فقط على العواقب.

وقالت العفو الدولية في بيان إن "تكرار حالات الإفراج الخاطئ يعكس اضطرابًا هيكليًا ناجمًا عن سياسات عقابية غير متوازنة"، مطالبة الحكومة بـ"إصلاح جذري لسياسات الاحتجاز والإفراج وإعادة تأهيل السجناء".

من جانبها، انتقدت رابطة موظفي السجون البريطانية نقص الموارد البشرية والتدريب، معتبرة أن "الضغط المتزايد على الموظفين، إلى جانب ضعف التنسيق بين القضاء والسجون، هو ما يؤدي إلى مثل هذه الأخطاء المؤسفة".

القانون ومسؤولية الدولة

من منظور القانون الدولي، تتحمل الدولة مسؤولية مباشرة عن ضمان سلامة الإجراءات القضائية وصون أمن المواطنين.

ويشير العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إلى أن حرمان شخص من حريته أو إطلاق سراحه دون سند قانوني واضح يمثل انتهاكًا لحق الأمن الشخصي.

وفي السياق ذاته، شدد مجلس أوروبا في تقرير سابق على ضرورة "تحسين نظم مراقبة تنفيذ الأحكام في السجون البريطانية، وضمان دقة السجلات الجنائية لمنع الأخطاء المتكررة".

وراء هذه الأرقام والقرارات القانونية تكمن معاناة إنسانية مزدوجة؛ فالأسر التي تتضرر من جرائم المفرج عنهم بالخطأ تعيش صدمة مضاعفة، تشعر فيها بأن العدالة خذلتها، بينما يعاني بعض السجناء الذين يُعاد احتجازهم بعد الإفراج الخاطئ من اضطرابات نفسية نتيجة الشعور بالظلم أو الخوف من الانتقام المجتمعي.

ويؤكد خبراء علم النفس الجنائي أن "الإفراج الخاطئ" لا يمس فقط سلامة المجتمع، بل يترك ندوبًا عميقة في ثقة الناس بمؤسسات العدالة، ويؤدي إلى تآكل الإيمان بالمنظومة القانونية.

الحكومة بين التبرير والإصلاح

ورغم الاعتراف بوجود "أخطاء محدودة"، تصر الحكومة البريطانية على أن النظام القضائي لا يزال فعالًا وآمنًا.

وأكدت وزارة العدل في بيان حديث أن "التغيرات في الأعداد السنوية يجب النظر إليها ضمن السياق العام"، مشيرة إلى أن "عمليات المراجعة والمراقبة الداخلية قائمة بشكل مستمر لتقليل نسبة الأخطاء إلى الحد الأدنى".

لكن المعارضة ترى أن الإصلاحات المعلنة لا تكفي، إذ تطالب أحزاب ومنظمات مستقلة بإنشاء هيئة تحقيق مستقلة لتقييم برنامج الإفراج المبكر وتداعياته على السلامة العامة.

يُذكر أن بريطانيا واجهت على مدى العقدين الأخيرين سلسلة أزمات متكررة في إدارة السجون، من بينها اكتظاظ مراكز الاحتجاز ونقص التمويل وتراجع أعداد الموظفين المؤهلين بنسبة 25% منذ عام 2010.

وفي عام 2016، حذرت لجنة العدل في البرلمان البريطاني من "تدهور خطير في البنية التحتية للسجون وازدياد احتمالات الأخطاء التشغيلية والإدارية".

كما أشارت مراجعة رسمية في عام 2020 إلى أن نظام تسجيل المدد العقابية "يعتمد على إجراءات يدوية" في عدد من المؤسسات العقابية، ما يزيد من احتمالات وقوع أخطاء بشرية في حساب فترات السجن والإفراج.

نحو إصلاح شامل

تواجه الحكومة اليوم اختبارًا صعبًا لاستعادة الثقة العامة في منظومة العدالة. فبين ضغوط الاكتظاظ، وتحديات التمويل، والحاجة إلى حماية المجتمع، تبدو الحاجة ملحة لإصلاحات مؤسسية عميقة توازن بين العدالة الإنسانية والأمن العام.

وفي ختام تقريرها، شددت إدارة السجون والمراقبة الملكية على أن "كل حالة إفراج خاطئ هي مأساة في حد ذاتها، سواء للضحايا أو للمجتمع أو للمؤسسة نفسها"، داعية إلى تحديث الأنظمة الإلكترونية وتعزيز الرقابة الداخلية لضمان أن العدالة لا تتحول إلى خطأ إداري جديد.

شهدت السجون البريطانية خلال السنوات الخمس الأخيرة ارتفاعًا في نسب الاكتظاظ بنحو 20%، بينما تواجه الحكومة انتقادات متزايدة بسبب تقليص موازنات وزارة العدل.

ويُعد نظام الإفراج المبكر من أكثر البرامج إثارة للجدل منذ تطبيقه في منتصف عام 2024، إذ يراه البعض ضرورة إنسانية لتخفيف الاكتظاظ، فيما يراه آخرون مخاطرة أمنية.

وتظل قضية الإفراجات الخاطئة اختبارًا حقيقيًا لقدرة بريطانيا على تحقيق التوازن بين العدالة والإنسانية والمسؤولية المؤسسية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية