تحت الحصار والدمار.. أزمة النفايات تهدد حياة مئات الآلاف في غزة

تحت الحصار والدمار.. أزمة النفايات تهدد حياة مئات الآلاف في غزة
النزوح في غزة - أرشيف

بين ركام الأبنية المهدمة وشوارع تغمرها المياه العادمة، يتراكم في غزة أكثر من ربع مليون طن من النفايات، وفق ما أعلنت بلدية المدينة، محذّرة من "كوارث بيئية وصحية" تهدد حياة مئات الآلاف من السكان الذين يعيشون أصلاً في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.

أكدت بلدية غزة في منشور مصور على حسابها بموقع "إكس" الأربعاء أن هذه الأزمة ليست عابرة، بل نتيجة مباشرة لدمار واسع طال أكثر من 85 في المئة من آلياتها ومعدّاتها خلال عامي الحرب الأخيرة، إضافة إلى منع القوات الإسرائيلية لطواقمها من الوصول إلى مكب النفايات الرئيسي في منطقة جحر الديك جنوب شرقي المدينة.

النفايات تملأ الشوارع

وقال الناطق باسم بلدية غزة عاصم النبيه، إن المدينة تعاني من "كوارث صحية وبيئية متفاقمة" بسبب شح المياه الصالحة للشرب وتسرّب كميات كبيرة من مياه الصرف الصحي إلى الشوارع، بالتزامن مع تراكم هائل للنفايات في مختلف المناطق.

وأضاف أن هذه النفايات تحولت إلى مصدر رئيسي لتكاثر القوارض والحشرات، وتهدد بانفجار أوبئة يصعب السيطرة عليها في ظل انعدام الإمكانيات الطبية والوقود اللازم لتشغيل المرافق الحيوية.

ويقول خبراء الصحة في القطاع إن خطر انتشار الأمراض المعدية كالكوليرا والتيفوئيد والتهاب الكبد الوبائي يرتفع بشكل كبير في غزة نتيجة تلوث المياه واختلاطها بمياه الصرف الصحي، خاصة مع درجات الحرارة المرتفعة ونقص مواد التطهير.

بنية تحتية منهارة

تُعد مشكلة النفايات في غزة انعكاساً لانهيار شامل في البنية التحتية التي تضررت خلال الحرب الأخيرة. فبحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في القطاع، تم تدمير أكثر من سبعمئة ألف متر من شبكات الصرف الصحي في أنحاء مختلفة من غزة، ما أدى إلى تسرب واسع لمياه الصرف في الأحياء السكنية.

ومع استمرار القيود الإسرائيلية على دخول الوقود وقطع الغيار والمعدات الثقيلة، أصبحت بلدية غزة عاجزة عن إعادة تأهيل شبكاتها أو حتى نقل القمامة إلى المكب الرئيسي الذي يقع في منطقة يمنع الجيش الإسرائيلي الوصول إليها منذ شهور.

ويرى مراقبون أن استمرار إغلاق تلك المناطق الحيوية يضاعف الأزمة، إذ لم تعد هناك مواقع بديلة لمعالجة النفايات أو دفنها، ما دفع السكان إلى حرقها عشوائياً في أطراف الأحياء، مسببين تلوثاً هوائياً خانقاً يزيد من معاناة المرضى وكبار السن.

مشهد يومي من المعاناة

في حي الشجاعية، تصطف أكوام القمامة بطول الشوارع الضيقة، في حين يحاول الأطفال تجاوزها في طريقهم إلى المدارس المؤقتة، يقول أحد السكان إن الروائح الكريهة أصبحت جزءاً من يومهم، وإن الحشرات والزواحف تتكاثر في المنازل القريبة من مكبات القمامة العشوائية.

ويضيف أن السكان اضطروا إلى جمع القمامة في أكياس وإلقائها في حفر مهجورة لعدم وجود سيارات بلدية تعمل في المنطقة منذ أسابيع.

هذه الصور تتكرر في رفح وخان يونس والمخيمات الوسطى، حيث يتقاطع الفقر مع الدمار في مشهد إنساني مأساوي يعكس عمق الأزمة التي تحولت من مشكلة خدمية إلى خطر وجودي يهدد الصحة العامة.

أزمة بيئية وإنسانية متداخلة

منظمة الصحة العالمية حذرت من أن تدهور خدمات المياه والصرف الصحي في غزة "يشكل تهديداً مباشراً على حياة السكان"، مشيرة إلى أن أكثر من تسعين في المئة من المياه الجوفية في القطاع غير صالحة للشرب.

وقالت المنظمة في بيان حديث إن انقطاع الوقود ومنع دخول المواد الكيميائية الخاصة بتنقية المياه يؤدي إلى انتشار واسع للأمراض المنقولة بالمياه، في وقت يعمل فيه النظام الصحي بأقل من نصف قدرته بسبب الدمار ونقص الإمدادات الطبية.

كما أعربت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" عن قلقها من تراكم النفايات في المخيمات، موضحة أن فرقها الميدانية لم تعد قادرة على جمع القمامة من معظم المناطق بسبب القصف ونقص الآليات.

وأضافت الأونروا أن عشرات آلاف العائلات تعيش في بيئة ملوثة، ما يرفع من احتمالات تفشي الأمراض المعدية في أماكن الإيواء المكتظة.

من جانبها، قالت منظمة العفو الدولية إن "تحويل البيئة إلى أداة حصار ومعاناة جماعية يرقى إلى انتهاك جسيم للقانون الدولي الإنساني"، مطالبة بالسماح العاجل بإدخال المعدات والوقود اللازم لتشغيل مرافق النظافة والصرف الصحي.

البعد الإنساني للأزمة

وفق اتفاقيات جنيف، يُعد حرمان السكان المدنيين من الخدمات الأساسية مثل المياه والنظافة عملاً مخالفاً للقانون الدولي، ويمثل شكلاً من أشكال العقاب الجماعي المحظور.

ويشير خبراء القانون إلى أن منع الوصول إلى مكبات النفايات وتعطيل أنظمة الصرف الصحي في مناطق مأهولة قد يُصنف جريمة حرب إذا ثبت أنه أدى إلى معاناة إنسانية واسعة النطاق أو تهديد مباشر للحياة.

وفي هذا السياق، دعا مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) إلى "رفع جميع القيود التي تحول دون استعادة الخدمات البيئية الأساسية"، مؤكداً أن الحق في بيئة نظيفة وصحية جزء من حقوق الإنسان التي يجب احترامها في جميع الظروف.

جذور الأزمة

تاريخياً، لم تكن أزمة النفايات في غزة وليدة اللحظة. فمنذ فرض الحصار الإسرائيلي على القطاع عام 2007، واجهت البلديات صعوبات متزايدة في استيراد الآليات ومواد الصيانة.

ومع اندلاع جولات متكررة من التصعيد العسكري، تدهورت البنية التحتية تدريجياً، حتى وصلت إلى نقطة الانهيار الكامل خلال حرب الإبادة الأخيرة التي دمرت ما يقارب تسعين في المئة من المرافق المدنية، وفق تقديرات المكتب الإعلامي الحكومي.

تقدّر الخسائر الإجمالية الأولية للبنية التحتية بنحو سبعين مليار دولار، وتشمل شبكات المياه والكهرباء والطرق والمباني الحكومية، ما يجعل إعادة الإعمار عملية معقدة وطويلة الأمد.

وتقول مريم، وهي أم لخمسة أطفال من حي الزيتون، إنها لم تعد قادرة على السماح لأطفالها باللعب خارج المنزل بسبب الروائح والحشرات، وتضيف أن المياه الملوثة تتسرب إلى بئرهم المنزلي الصغير، وأنها تخشى أن يصاب أبناؤها بالأمراض.

ويؤكد الطبيب سامر البرغوثي من مستشفى الشفاء أن المستشفى يستقبل يومياً حالات تسمم معوي وجلدية ناجمة عن تلوث المياه، مشيراً إلى أن انقطاع الكهرباء المستمر يمنع تشغيل محطات المعالجة القليلة المتبقية.

طريق صعب نحو الحل

بلدية غزة وجهت نداءً عاجلاً إلى المنظمات الدولية لإدخال المعدات والوقود والسماح لطواقمها بالوصول إلى المكب الرئيسي. لكنها تؤكد أن أي جهود جزئية لن تكون كافية دون رفع شامل للقيود المفروضة على إدخال مواد البناء والآليات الثقيلة اللازمة لإعادة إعمار البنية التحتية المدمرة.

ويرى خبراء الأمم المتحدة أن معالجة الكارثة البيئية في غزة تتطلب خطة طوارئ دولية تشمل إنشاء محطات مؤقتة لمعالجة النفايات والمياه العادمة، وتوفير تمويل فوري لإعادة تأهيل شبكات الصرف والمياه، إلى جانب دعم البلديات بالمعدات والكوادر الفنية.

تحذر منظمات بيئية من أن استمرار تسرب المياه العادمة إلى البحر الأبيض المتوسط يشكل تهديداً يتجاوز حدود القطاع، إذ يمكن أن يؤدي إلى تلوث سواحل الدول المجاورة، ومنها سواحل إسرائيل ومصر.

التلوث البحري في غزة

ويؤكد تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن التلوث البحري في غزة أصبح من أعلى المعدلات في شرق المتوسط، وأن معالجة هذه الأزمة تتطلب تعاوناً إقليمياً عاجلاً قبل أن تتحول إلى خطر بيئي واسع النطاق.

وبين أكوام النفايات والمياه الملوثة والقيود المفروضة على إعادة الإعمار، تعيش غزة واحدة من أسوأ الأزمات البيئية في تاريخها الحديث، والأزمة لم تعد مسألة خدمات، بل تحولت إلى تهديد مباشر للحياة، في منطقة يقطنها أكثر من مليوني إنسان يعانون من الحصار والفقر وانعدام الموارد.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية