من فلويد إلى مونيز.. عنف الشرطة يعيد الجدل حول العنصرية ضد المهاجرين السود
عقب توترات لشبونة
أعاد مقتل البرتغالي من أصل إفريقي يدعى أودير مونيز على يد الشرطة في أحد أحياء العاصمة لشبونة، لذاكرة العالم أبرز حوادث العنصرية ضد السود في الدول الغربية، ولعل أكثرها انتشارا كان مقتل الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد على يد الشرطة في الولايات المتحدة قبل نحو 4 سنوات.
وشهدت عدة ضواحٍ في العاصمة لشبونة اضطرابات وتوترات عنيفة، بعد مقتل رجل أسود يبلغ من العمر 43 عامًا يدعى أودير مونيز على يد الشرطة في ظروف أثارت انتقادات واسعة من قبل الحركات المناهضة للعنصرية.
وقتل مونيز -تعود جذوره إلى مستعمرة برتغالية سابقة في إفريقيا- برصاص الشرطة مساء الأحد الماضي أثناء محاولته الفرار منهم، فيما زعم رجال الشرطة أنه هاجمهم بسكين، ما أثار موجة انتقادات واسعة جراء العنف المفرط الذي تستخدمه الشرطة ضد السود في البلد الأوروبي.
والأربعاء، أعلنت الشرطة البرتغالية، في بيان، عن اعتقال ثلاثة أشخاص وتسجيل نحو ستين حادثًا في لشبونة وضواحيها، شملت سبع بلدات مجاورة، وأصيب عنصران من الشرطة نتيجة رشقهم بالحجارة، وتعرضت مركبات تابعة لقوة إنفاذ القانون للتدمير، إضافة إلى إحراق حافلتين وتسع مركبات أخرى.
وأفادت التقارير بإصابة شخصين بطعنات غير خطيرة، نفذها أفراد "يعتقد أنهم سرقوا وأحرقوا إحدى الحافلات"، وتداولت وسائل الإعلام المحلية على نطاق واسع صورًا للسيارات المحترقة، مشيرة إلى أن البلاد نادرًا ما تشهد مثل هذه الأعمال العنيفة.
بدورها أعربت منظمة “SOS Racisme” عن مخاوفها بشأن العنف المفرط الذي تستخدمه الشرطة ضد السود، وربطت الحادث بحالات سابقة من قسوة الشرطة، داعية إلى تحقيق جدي للكشف عن الدوافع الحقيقية وراء تدخل الشرطة.
وتؤكد مبادئ الأمم المتحدة مكافحة العنصرية والتمييز على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الجنس أو اللغة أو أي خصائص أخرى، وقد أطلقت الأمم المتحدة العديد من الحملات والمبادرات لمكافحة العنصرية والتمييز ووقف خطاب الكراهية.
جذور الأزمة
العنصرية ضد السود في الدول الأوروبية هي قضية معقدة ومتجذرة تاريخيًا، وتشمل جوانب اجتماعية وسياسية وثقافية، ورغم الجهود المبذولة لتعزيز المساواة وحقوق الإنسان في أوروبا، لا تزال هناك تحديات متعلقة بالتمييز والعنصرية ضد الأشخاص من أصول إفريقية أصحاب البشرة السوداء.
وتظهر أوجه العنصرية ضد السود في الدول الغربية في عدة جوانب، أبرزها التمييز المؤسسي، لا سيما التمييز في الوصول إلى التعليم، وسوق العمل، والرعاية الصحية، وحتى في النظام القضائي، إذ عادة ما يواجه السود صعوبات أكبر في الحصول على فرص عمل مقارنة بالآخرين، بالإضافة إلى تفاوت في الرواتب وظروف العمل والمعاملة.
كما تتجلى العنصرية أيضا في الشرطة والعدالة الجنائية، حيث يشكو الكثير من السود في الدول الأوروبية من سوء المعاملة والتمييز من قبل الشرطة، في حالات مثل التنميط العنصري وزيادة احتمال تعرض السود للتوقيف والتفتيش والحوادث العنيفة التي تصل أحيانا إلى القتل.
وعلى المستوى الاجتماعي، قد يتعرض السود إلى تحيزات عنصرية تتجلى في مواقف حياتية يومية، مثل التعليقات السلبية أو التمييز في الخدمات العامة والمواصلات وغيرها، كما تعزز وسائل الإعلام أحيانا الصور النمطية السلبية عن السود، ما يزيد من تأجيج العنصرية والتمييز ضدهم.
ويظهر الانحياز الإعلامي والثقافي ضد أصحاب البشرة السمراء في الدول الأوروبية والولايات المتحدة في بعض القضايا المتعلقة بتغطية الإعلام لإفريقيا أو المجتمعات السوداء إذ تكون منحازة أو مشوهة وتحمل أفكاراً وآراء مغلوطة إلى حد ما.
ورغم ذلك يتنامى الوعي بقضية العنصرية ضد السود في أوروبا، وهناك حركات حقوقية ومنظمات مجتمع مدني تعمل على مواجهة هذه الظاهرة، وفي السنوات الأخيرة حظيت حملات مثل "حياة السود مهمة" "Black Lives Matter" بدعم كبير في أوروبا، ما أثار النقاش حول المساواة العرقية والعدالة الاجتماعية.
ولا تزال هذه القضية موضوعًا حساسًا ومهمًا في أوروبا، حيث تتفاوت تجربة السود بناءً على الدولة التي يعيشون فيها، والمجتمع المحلي، والسياسات الحكومية المتعلقة بالهجرة والتعددية الثقافية.
أبرز الحوادث
وخلال العقود الثلاثة الماضية، شهدت بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية حوادث عنصرية ضد السود، ما يعكس التحديات المستمرة التي تواجهها المجتمعات السوداء في مواجهة العنصرية الممنهجة في الدول الغربية.
في أوروبا:
*ستيفن لورنس (1974-1993) هو شاب أسود قُتل في هجوم عنصري على يد مجموعة من البيض في العاصمة البريطانية لندن، وتأخرت نتائج التحقيقات في قضيته لعدة عقود، ما أثار ضجة واسعة أدت إلى إدخال إصلاحات في الشرطة البريطانية للتعامل مع العنصرية المؤسسية.
*أداما تراوري (1992-2016) هو شاب من أصول إفريقية، توفي في ظروف غامضة بعد أن تم احتجازه من قبل الشرطة الفرنسية، وأثارت القضية احتجاجات واسعة ضد عنف الشرطة والعنصرية.
*أكرم الجزائري (1991-2020) شاب قُتل خلال مشادة مع الشرطة في بلجيكا، وأثارت قضيته جدلاً حول العنصرية في المجتمع البلجيكي خاصة ضد المهاجرين الأفارقة.
في الولايات المتحدة:
*قضية رودني كينغ (1991): مواطن أمريكي من أصل إفريقي اشتهر في نهاية القرن العشرين على إثر أحداث دموية شهيرة وقعت في مدينة لوس أنجلوس وسميت باسم "قضية رودني كينغ"، غير أنه تعرض للضرب المبرح على يد الشرطة في لوس أنجلوس، وأدت تبرئة الضباط المتورطين في الحادثة إلى اندلاع أعمال شغب في المدينة.
*مايكل براون (1996-2014) شاب أسود قتل على يد ضابط الشرطة الأبيض دارين ويلسون، وأدى مقتله إلى احتجاجات واسعة وأعاد إشعال الجدل حول العنف العنصري الموجه ضد السود في الولايات المتحدة.
*جورج فلويد (1973-2020) هو رجل أسود قُتل خنقًا على يد ضابط الشرطة ديريك شوفين في ولاية مينيسوتا، وتم توثيق الحادثة على الفيديو، وأثارت موجة من الاحتجاجات العالمية ضد العنصرية وعنف الشرطة تحت شعار "حياة السود مهمة".
أصوات لا تسمع
وفي أكتوبر 2023، كشفت دراسة استقصائية أجرتها وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية على المهاجرين ذوي البشرة السمراء من الجيلين الأول والثاني في 13 دولة في الاتحاد الأوروبي، أن نحو ثلث نحو 6700 مشارك قالوا إنهم تعرضوا للتمييز العنصري على مدى العام الماضي، بزيادة قدرها 10 نقاط مئوية على استطلاع سابق أجري قبل ست سنوات.
ونقلت وسائل إعلام أجنبية عن مايكل أوفلاهرتي، مدير الوكالة التابعة للاتحاد الأوروبي قوله: “من المثير للصدمة عدم رؤية أي تحسن منذ استطلاعنا الأخير في عام 2016، وبدلا من ذلك، يواجه المنحدرون من أصل إفريقي المزيد من التمييز بسبب لون بشرتهم فقط”.
وتعكس البيانات التي تم تتبعها في ألمانيا والنمسا ارتفاعا حادا في ادعاءات الانتهاكات العنصرية، حيث قال نحو الثلثين (64 بالمئة) الذين شملهم الاستطلاع في دولتي الاتحاد الأوروبي، إنهم تعرضوا للتمييز العنصري مؤخرا، ما يمثل ارتفاعا بنسبة 33 بالمئة على الاستطلاع الأخير، فيما شهدت فرنسا ولوكسمبورغ والبرتغال حالات أقل من العنصرية التي أبلغ عنها أصحاب البشرة السمراء مقارنة بالمسح السابق.
وأوضحت الوكالة أن من بين الصعوبات التي يواجهها المهاجرون أصحاب البشرة السمراء في مختلف دول الاتحاد الأوروبي، التمييز في تأمين السكن والتوظيف، فضلا عن المضايقات العدوانية التي يمكن أن تجعل الضحايا يشعرون "بصدمة عميقة".
وقالت الدراسة الاستقصائية أيضا أن واحدا من كل أربعة أشخاص من ذوي البشرة السمراء قالوا إن الشرطة أوقفتهم في السنوات الخمس الماضية، وقال نحو نصفهم إنهم شعروا أن ذلك كان بسبب التنميط العنصري، لكنها أكدت أن العنصرية والعنف غالبا ما لا يتم الإبلاغ عنها، ولذلك فإن أصوات الناس لا تُسمع.
وشمل الاستطلاع أشخاصا من أصول إفريقية يعيشون في النمسا وبلجيكا والدنمارك وفرنسا وفنلندا وألمانيا وأيرلندا وإيطاليا ولوكسمبورغ والبرتغال وبولندا والسويد وإسبانيا.
العبودية الحديثة
بدوره، قال محمد إقبال بن رجب، الناشط الحقوقي التونسي والمتخصص في قضايا الهجرة والمهاجرين، إن العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة تمارس العنصرية على المهاجرين من أصحاب البشرة السمراء والأصول إفريقية سواء المقيمين لديها أو الذين يحاولون الوصول إليها عبر الهجرة غير النظامية.
وأوضح بن رجب، في تصريحه لـ"جسور بوست" إن الذهنية الاستعمارية لا تزال مستوطنة في بعض العقول الأوروبية تجاه السود، حيث لا تزال نظرة العبودية والنظرة العدائية مسيطرة في التعاملات اليومية ضد أصحاب البشرة السمراء خارج إطار القانون.
وعزا الخبير التونسي أحد أسباب انتشار العنصرية والعنف ضد السود إلى صعود تيار اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية خلال الخمس سنوات الماضية، حيث يتخذ هذا التيار موقفًا عدائيًا من المهاجرين سواء الأفارقة أو العرب والمسلمين، ويستغل أي حوادث أو وقائع عادية لتأجيج المجتمعات الأوروبية ضد المهاجرين.
وأضاف: "يأتي ذلك رغم أن المهاجرين، لا سيما الأفارقة، يسهمون في جزء كبير من التنمية الاقتصادية في الدول الأوروبية، وحتى في مجال كرة القدم والرياضة فقد أسهم اللاعبون الأفارقة في حصول المنتخب الفرنسي على كأس العالم في عام 2018".
وبشأن عدم لجوء المهاجرين الأفارقة إلى تسجيل الشكاوى بشأن معظم وقائع العنصرية التي يواجهونها، قال بن رجب: "هم للأسف واقعون بين المطرقة والسندان ويخشون اللجوء إلى الشرطة في البلدان الأوروبية خوفا من الترحيل، كما أن مصروفات اللجوء إلى القضاء في أوروبا تعد مرتفعة للغاية ومعظم المهاجرين الأفارقة من محدودي الدخل".
ووفق ما رأى محمد إقبال بن رجب فإن الجمعيات الحقوقية التي تناهض العنصرية في أوروبا لها دور بالغ الأهمية في مواجهة هذه الحوادث المشينة التي تعبر عن ترسخ وتجذر الممارسات العنصرية والذهنية الاستعمارية في الدول الأوروبية.
ورسميا تم القضاء على العبودية في كل أنحاء العالم، لكن ذلك يبقى مجرد حبر على ورق على أرض الواقع، إذ يمكن تصنيف الاعتقال السياسي وعمالة الأطفال وتجنيد الأطفال في الحرب والأشكال التقليدية للعبودية والاستغلال الاقتصادي على أنها من أشكال العبودية الحديثة.
وبحسب تقديرات خبير العبودية الشهير البروفسور كيفن بيلز من جامعة روهامبتون في لندن، فإن هناك نحو 27 مليون شخص يعانون من العبودية الكلاسيكية حول العالم، ويضاف إليهم أكثر من 100 مليون شخص بحسب المنظمات الإغاثية ممن يعيشون في ظروف أقرب إلى العبودية.
وأعلن الخبير بيلز في تقارير أممية، أن الاتجار بالبشر والعبودية الجنسية ينتشران عادة في أوروبا والولايات المتحدة، حيث تفشل دولة القانون بشكلها الحالي في مكافحة أشكال العبودية الحديثة، وقد فشلت أوروبا حتى الآن بالوصول إلى استراتيجيات وقوانين موحدة لمكافحة العبودية.