بعد عامين خلف القضبان.. براءة سوداني نجا من الموت على ضفاف المانش
بعد عامين خلف القضبان.. براءة سوداني نجا من الموت على ضفاف المانش
لم يكن إبراهيم أ. يتصور أن نجاته من غرق قارب مهاجرين في المانش ستقوده إلى غرق آخر، أقسى وأطول، داخل زنزانة باردة امتدت عامين وثلاثة أشهر، فالشاب السوداني الذي فرّ من الخوف والحرب والفقر، وجد نفسه فجأة متَّهماً لا ناجياً، ومتهماً بقيادة القارب الذي غرق في 12 أغسطس 2023، في حادثة راح ضحيتها سبعة مهاجرين أفغان كانوا يحلمون بعبور أخير نحو بريطانيا، وبعد محاكمة استمرت أسبوعين، أعلنت محكمة باريس مؤخراً براءته، لتبدأ فصلاً جديداً في قصة نجاة أثقلت كتفي صاحبها بأكثر مما يحتمل.
حياة توقفت قسراً
القرار الذي صدر في 18 نوفمبر جاء بمنزلة رفع يد العدالة عن حياة توقفت قسراً، واعتراف بأن الشاب لم يكن جزءاً من شبكة التهريب التي اتُّهِم بالتورط فيها، وفق "مهاجر نيوز".
محاميه، رافائيل كيمبف، قال إن ما حدث مريح للغاية، مؤكداً أن المحاكمة سمحت أخيراً بسماع قصة إبراهيم الحقيقية، لكن راحة اللحظة لم تُلغِ سنتين كان فيهما الشاب وحيداً بين جدران أربعة، يصارع شعور الظلم والخوف والحنين إلى حياة لم تبدأ بعد.
أحكام بالإدانة
في المقابل، أصدرت المحكمة في باريس أحكاماً بالسجن تراوحت بين ثلاث و15 سنة بحق ثمانية رجال آخرين، معظمهم أفغان وأكراد عراقيون، اعتبروا جزءاً من الشبكة التي رتبت رحلة الموت، وتحمّل اثنان منهم، في منتصف الأربعينات من العمر، وصمة القيادة الفعلية لهذه المنظمة الإجرامية، ونالا أقسى حكمين بتهم تتعلق بالقتل غير العمد وتهريب البشر.
أما إبراهيم، فكانت التهمة الموجهة إليه قائمة على رواية واحدة أنه شارك في قيادة قارب المهاجرين، ورغم إنكاره منذ اللحظة الأولى، ظل محتجزاً، يواجه احتمال الحكم عليه بالسجن عشر سنوات، ولكنه لم يكن يدافع فقط عن حريته، بل عن قصته الحقيقية التي ظل يعيد سردها لكل من يستمع، فهو لم يكن مهرباً، لم يكن قائداً، كان فقط مهاجراً فقيراً يحاول أن يحجز مكاناً في قارب قد لا يوصله إلى الحلم، لكنه قد يوصله إلى فرصة.
نضال يومي
منذ توقيفه، كانت حياة الشاب داخل سجن بوا دارسي نضالاً يومياً، في رسالة طويلة كتبها بخط مائل مرتب، وصف كيف حاول صنع بعض الضوء في أيامه القاتمة حيث تعلّم الفرنسية، وقام العمل داخل السجن، ضمن محاولات البقاء متماسكاً رغم شعور العزلة والظلم، وكتب أن حياته "صعبة للغاية"، وأنه لم يتوقف لحظة عن تكرار براءته، رغم أن ذلك لم يكن كافياً لإعادته إلى الحرية.
قصة اعتقاله تتشابك مع تفاصيل تلك الليلة على شاطئ سانغات، حيث كان الشاب يبحث عن طريقة لعبور المانش، واقترب منه مهربون، اشترطوا 700 يورو ثم خفّضوا المبلغ إلى 400 إذا ساعد في إنزال القارب إلى المياه، وحين تردد، جاءه التهديد في صورة رجال مسلحين يجبرونه على التعاون، كان واضحاً أن إبراهيم كان الحلقة الأضعف، ليس المقرِّر ولا المنظم، بل شخص عالق بين الحاجة والخوف.
وعندما انهار القارب في عرض البحر، وجد نفسه مجدداً بين الموت والحياة، وتصف روايات الناجين لحظة الغرق كأنها دوامة من الصراخ والبرد والعتمة.
فاضل، أحد الناجين البالغ من العمر 19 عاماً، قال إن الناس حاولوا بكل قوتهم التشبث ببقايا القارب، لكن الأمواج كانت أسرع، ورأى فاضل أشخاصاً يموتون أمامه، ورأى أيضاً إبراهيم يحاول النجاة مثل جميع الآخرين، لا أكثر ولا أقل.
ومع ذلك، خرج إبراهيم من الماء ليغرق من جديد في الاتهامات، في حين بقي العامين الماضيين معلَّقاً بين صفة لم تخترها روحه تتجسد في كلمة "متهم" واليوم، ومع إعلان براءته، يبدأ الشاب خطوته الأولى نحو حياة جديدة، وإن كانت مليئة بالتحديات، فبحسب محاميه، سيحصل على مكان للإقامة بفضل أشخاص متعاطفين معه، وسيقدم طلب اللجوء أمام المحكمة الوطنية للجوء في ديسمبر المقبل، آماله الآن بسيطة، أقرب إلى الضروريات تتمثل في الاعتراف بحقه في الحماية، والقدرة على البدء من جديد.
قسوة الواقع
إن هذه القضية لا تعكس فقط براءة شاب، بل تكشف واقعاً أكثر قسوة خلف عبور بحر المانش، فهناك المئات من المهاجرين يدفعون حياتهم، أو سنوات من عمرهم، أو سلامهم النفسي، ثمناً لرحلة محفوفة بالموت، وفي كل مرة يغرق فيها قارب، لا يغرق المهاجرون وحدهم، بل تغرق معهم حقيقة كبرى.. أن اليأس، حين تُغلق الأبواب ويضيق الخناق، يدفع الناس إلى ركوب الموج حتى لو كان الموج أشرس من الأمل.
وبراءة إبراهيم اليوم لا تطوي صفحة الألم، لكنها تفتح نافذة صغيرة في جدار الظلم، نافذة تقول إن العدالة، رغم بطئها، قد تصل، وإن من نجا من الماء وظل يقاتل من أجل الحقيقة، يستحق أخيراً أن تطأ قدماه اليابسة وهو حر، لا متَّهماً.










