بعد عام على سقوط النظام.. العنف الطائفي والانتقامي يهدد السلم الأهلي في سوريا

بعد عام على سقوط النظام.. العنف الطائفي والانتقامي يهدد السلم الأهلي في سوريا
احتجاجات سورية ضد القمع

اتسعت خريطة الخوف في سوريا رغم مُضي عام على سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، ولم تعرف البلاد خلاله أي ملامح للاستقرار أو التماسك، بدلاً من ذلك، حيث تحوّلت إلى مسرح مفتوح للعنف المنفلت، تصاعدت فيه جرائم القتل والانتقام الطائفي، وسط غياب كامل للمؤسسات وضعف شديد في البنى الأمنية والقضائية، هذا الانهيار الشامل جعل العام الذي تلا السقوط أحد أكثر الأعوام دموية منذ بداية الصراع السوري.

تصاعد غير مسبوق للعنف

تشير المعطيات التي وثقها المرصد السوري لحقوق الإنسان في تقرير له الجمعة إلى أن الشهور التي تلت انهيار النظام شهدت انتشاراً واسعاً لجرائم التصفية التي استهدفت مدنيين في مختلف المحافظات؛ إذ تنوعت أساليب العنف بين إطلاق النار المباشر والطعن والتفجيرات والإخفاء القسري والقتل على الهوية والانتماء الطائفي. ويعكس اتساع هذا النوع من الجرائم تفكك السلطة وضياع قدرة أي جهة على فرض النظام أو احتواء التوترات المجتمعية المتراكمة.

وفي ظل هذا الفراغ لم تعد الجريمة حادثاً فردياً أو نتيجة خصومة معزولة، بل تحولت إلى ظاهرة متنامية تغذيها رغبات الانتقام وغياب العدالة وضعف حضور الدولة، ومع انهيار مؤسسات الضبط الأمنية وغياب القضاء الفاعل بات المدنيون الحلقة الضعيفة في مشهد تتصارع فيه الانتماءات والعصبيات المحلية.

خريطة القتل خلال عام من الفوضى

تقدم أرقام العام الأول بعد سقوط النظام صورة دامية تعكس عمق الأزمة، فقد وثق المرصد السوري 388 جريمة جنائية أودت بحياة 449 شخصاً، بينهم رجال ونساء وأطفال، وتوزعت الجرائم على معظم المحافظات، مؤكدة أن الفوضى لم تترك منطقة بمنأى عنها.

في دمشق سُجل وقوع 31 جريمة، راح ضحيتها 33 شخصاً. وفي ريف دمشق ارتفع الرقم إلى 53 جريمة أسفرت عن 66 ضحية، وفي حلب سجل وقوع 32 جريمة قتل، أما حمص وحماة واللاذقية فشهدت بدورها موجات متتالية من العنف، وكانت درعا في صدارة المحافظات الأكثر تضرراً بـ76 جريمة أدت إلى مقتل 85 شخصاً، ولم تكن السويداء والقنيطرة والرقة بعيدة عن هذا المشهد، إذ سجلت فيها جرائم متفرقة اتخذت في بعض الأحيان طابعاً انتقامياً واضحاً.

هذا التوزع الواسع للجريمة يؤكد أن الفوضى الأمنية لم تعد محصورة في بؤر معينة، بل أصبحت واقعاً عاماً يمتد من الجنوب إلى الشمال متسبباً في حالة ذعر شديدة لدى السكان الذين يشعرون بأنهم متروكون لمصيرهم من دون حماية.

أشهر دامية بلا توقف

تظهر القراءة الزمنية لتطور الجريمة أن وتيرة جرائم القتل حافظت على ارتفاعها منذ الأيام الأولى التي تلت سقوط النظام وحتى نهاية عام 2025، ففي الأسابيع الأخيرة من عام 2024 سُجل وقوع عشر جرائم فقط، لكنها كانت مؤشر البداية لمسار أكثر مأساوية.

شهد يناير 2025 ثلاثين ضحية و33 جريمة وفي فبراير لم تهدأ الوتيرة مع تسجيل 33 جريمة أخرى، وتزايدت حالات القتل في مارس وأبريل ويونيو الذي كان أحد أكثر الأشهر دموية، فقد سجل وقوع 39 جريمة أسفرت عن 44 ضحية، وظل المشهد على هذا النحو طوال أشهر الصيف والخريف بمعدلات مرتفعة تعكس غياب أي قدرة على ضبط السلاح أو كبح العصابات المتنامية، ورغم التراجع النسبي في الأشهر الأخيرة من العام لم يكن هذا الانخفاض كافياً للإشارة إلى تحسن حقيقي، بل بدا انعكاساً لظروف ظرفية وليس تغييراً في البيئة الأمنية.

دوامة انتقام بلا نهاية

يكشف التقرير أن تكرار الجرائم واتساعها الجغرافي ارتبطا بتحول العنف إلى وسيلة للتعبير عن الخلافات السياسية والطائفية والاجتماعية التي انفجرت على نحو غير مسبوق بعد انهيار السلطة المركزية، ومع غياب القضاء انعدمت سبل الإنصاف، فانفتح الطريق أمام دوائر انتقام تتغذى على بعضها بعضاً.

في هذا السياق يرى مراقبون حقوقيون أن ما يجري يشبه انفجاراً مكبوتاً لسنوات من القمع وانعدام العدالة، غير أن أخطر ما يرافقه هو غياب أي جهة قادرة على إعادة ضبط العلاقات المجتمعية أو حصر السلاح خارج أيدي المدنيين، ويؤكد العاملون في الشأن الإنساني أن استمرار هذا الوضع سيقود البلاد إلى مستويات أعمق من التمزق ويهدد بنية المجتمع السوري على المدى البعيد.

تأثير مباشر في السلم الأهلي

انعكست هذه الجرائم على حياة السوريين اليومية، حيث تراجعت قدرة الناس على التنقل بين المناطق، وازدادت حدة الخوف خصوصاً لدى الفئات الضعيفة مثل النساء والأطفال وكبار السن، وتحولت بعض المحافظات إلى مناطق مغلقة يحكمها العرف المحلي والعصبيات الأهلية بدلاً من القانون، وتقول منظمات حقوقية إن هذا الواقع يهدد بانهيار ما تبقى من نسيج اجتماعي كان مرهقاً أصلاً بعقد من الصراع.

وفي ظل هذا المشهد تبرز المخاوف من دخول البلاد في مرحلة صراعات محلية صغيرة داخل كل منطقة على حدة، وهو ما يحذر منه خبراء الأمم المتحدة الذين يشددون على أن الفشل في إعادة بناء مؤسسات العدالة سيجعل أي حديث عن استقرار أو مصالحة ضرباً من الخيال.

غياب الدولة يفتح الباب أمام الجريمة

تؤكد تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية أن غياب الدولة وتفكك مؤسساتها هو المحرك الأساسي وراء تصاعد الجريمة في سوريا بعد السقوط. وتشير المفوضية السامية لحقوق الإنسان في تقاريرها إلى أن انهيار منظومة القضاء يؤدي إلى تدهور سريع في حماية الحقوق ويضاعف حجم الانتهاكات، كما تحذر منظمة العفو الدولية من أن استمرار الإفلات من العقاب يرسل رسائل خطرة تشجع لمزيد من العنف.

وتعد هيومن رايتس ووتش معالجة موجة القتل تتطلب إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية على أسس مهنية خاضعة للمساءلة، إضافة إلى إطلاق آليات للعدالة الانتقالية تكون قادرة على كشف الحقيقة وتعويض الضحايا.

دعوات ملحة للتدخل

يدعو المرصد السوري الجهات الدولية والمحلية المعنية إلى خطوات عاجلة لوقف النزيف المستمر، تشمل هذه الخطوات العمل على حماية المدنيين، وفتح تحقيقات مستقلة وشفافة في الجرائم، وتفعيل مسارات العدالة الانتقالية، وتشجيع المبادرات المجتمعية للحد من الانقسامات، وتقديم دعم فوري لمنظمات المجتمع المدني التي تعمل على التوثيق وتوفير الدعم القانوني والنفسي للضحايا.

إن العام الأول بعد سقوط النظام كشف حجم هشاشة المجتمع السوري وعمق الجراح المتراكمة، فالعنف المتصاعد ليس مجرد نتيجة ظرفية، بل هو انعكاس لسنوات طويلة من الانقسام والغياب المؤسسي، وإذا لم تُتخذ خطوات جدية لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس العدالة والمساءلة، فإن خطر الانزلاق إلى مراحل أعمق من الفوضى سيظل يهدد مستقبل البلاد وأمنها وسلامها الأهلي.

تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن النزاعات التي تشهد انهياراً مفاجئاً في مؤسسات الدولة تكون عرضة لموجات عنف واسعة ناجمة عن الفراغ الأمني وتداخل الصراعات المحلية، وتؤكد المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن غياب القضاء المستقل هو أحد أهم أسباب تفشي الجريمة والقتل الانتقامي في البيئات التي تشهد انقساماً مجتمعياً حاداً، في حين تحذر منظمة العفو الدولية من أن الإفلات من العقاب يؤدي تلقائياً إلى زيادة الانتهاكات، كما ترى هيومن رايتس ووتش أن حماية المدنيين في البيئات المنهارة تحتاج إلى نشر آليات مراقبة دولية وتفعيل عمليات العدالة الانتقالية وإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية لضمان عدم تكرار الانتهاكات، وتسلط هذه الملاحظات الأممية الضوء على أن الوضع السوري بعد السقوط يتطابق في كثير من جوانبه مع أنماط الفوضى في الدول الخارجة من النزاع، الأمر الذي يجعل التدخل الحقوقي والإنساني ضرورة عاجلة لحماية المدنيين ومنع انزلاق البلاد إلى مستويات أكثر خطورة من العنف المجتمعي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية