حماية الطفولة في العصر الرقمي.. كيف يؤثر حظر مواقع التواصل في المراهقين بأستراليا؟
حماية الطفولة في العصر الرقمي.. كيف يؤثر حظر مواقع التواصل في المراهقين بأستراليا؟
تبدأ أستراليا هذا الأسبوع تنفيذ واحد من أكثر القوانين إثارة للجدل عالمياً في ميدان حماية الطفل الرقمي، عبر منع الأطفال دون السادسة عشرة من امتلاك حسابات على منصات مثل تيك توك وسناب شات ويوتيوب وإنستغرام.
تقدّم هذه الخطوة التي تابعتها صحف ومنصات غربية عدة، ميداناً جديداً لاختبار قدرة الدول على تنظيم فضاء رقمي تتشكل فيه هوية الأجيال، وتتعمق فيه علاقاتهم الاجتماعية والنفسية.
وتسعى الحكومة الأسترالية إلى حماية الأطفال من مخاطر التمرير اللانهائي، والتنمر الإلكتروني، والتأثيرات النفسية المعقدة التي تربط المستخدم بخوارزميات مصمّمة لجذب الانتباه، لكنّ المراهقين الذين نشؤوا في عالم رقمي كامل، يُبدون شكوكاً كبيرة بشأن قدرة القانون على تغيير ما يعدونه جزءاً أصيلاً من حياتهم اليومية.
فجوة الجيل الرقمي
يكشف سرد "نيويورك تايمز" عن تجارب شخصية حيّة لمراهقين تراوح أعمارهم بين 14 و15 عاماً، يعيشون في الضواحي الشرقية لملبورن، ويجسدون الفجوة العميقة بين رؤية الكبار لمنصات التواصل باعتبارها تهديداً، ورؤية الجيل الأصغر لها بوصفها امتداداً طبيعياً للعلاقات الإنسانية.
وتتابع مراسلة الصحيفة توضيح كيف استخدم صديقان -أحدهما يدعى دارسي بريتشارد (15 عاماً)، والثاني لوكا هاغوب (15 عاماً)- هذه التطبيقات بطرق مختلفة:
تستخدم دارسي سناب تشات ثم تتوقف عنه بإرادتها بعد شعورها بأنها تنجذب إليه أكثر مما يجب، في حين يقضي لوكا ساعات طويلة على إنستغرام، مُتنقّلاً بين مقاطع الحيوانات المرحة.
وتتكرّر أنماط مشابهة لدى مراهقات مثل أميلي توملينسون (14 عاماً) التي تعتمد على سناب تشات في متابعة أخبار صديقاتها، وصديقتها ياسمين بنتلي (15 عاماً) التي تُمنع من مواقع التواصل لكنها تحلم بأن تصبح صانعة محتوى.
ويزداد المشهد تعقيداً حين تروي دارسي أن الفتيات يلجأن إلى تصوير فيديوهات تيك توك في المدرسة قبل بدء الدوام، في حين تستخدم ياسمين الكاميرا لتسجيل نفسها أثناء وضع المكياج رغم عدم امتلاكها حسابات على المنصات.
الصراع الحقوقي
تدفع هذه التجارب اليومية إلى سؤال حقوقي أساسي: هل يمكن للدولة حماية الطفل من دون المساس بحقه في التعبير والتواصل والانخراط الاجتماعي؟ تشير تغطية لشبكة "إن بي آر" الأمريكية إلى أنّ أستراليا تقدم أول تجربة وطنية شاملة تفرض عمراً قانونياً موحداً للوصول إلى المنصات، مع تحميل الشركات مسؤولية التطبيق عبر أدوات التحقق من العمر، دون معاقبة الأطفال أو الأهالي، وفي المقابل، تشكك الشركات في فعالية الحظر الشامل، وتدّعي أنها ليست الطريقة المثلى لحماية الأطفال.
ومن جانبها، تبرز "الغارديان" جانباً مهماً من النقاش الحقوقي، عبر حديث مع خمس مراهقات يرين في الحظر تقييداً للحرية وتدخلاً مفاجئاً في ممارسات يومية رسخت نفسها في حياتهن.
وتنطلق أستراليا من فرضية حماية الطفل باعتبارها التزاماً وطنياً، خصوصاً في ظل تزايد القلق العالمي من الأضرار النفسية لوسائل التواصل، وانكشاف الأطفال أمام الترويج، والتنمر، وإدمان الشاشة.
ويظهر في المادة المنشورة في نيويورك تايمز أن وزيرة الاتصالات، أنيكا ويلز، تصف القانون بأنه محاولة لخلق "واقع جديد" يغمر فيه الأطفال وقتهم بالأنشطة غير الرقمية كالرياضة والخبز وتعلم اللغات، وهي رؤية تضع مصلحة الطفل في صلب السياسة، لكنها قد لا تعكس بدقة واقع مراهقين يعيشون حيواتهم الاجتماعية عبر الشاشة.
وتُظهر النقاشات البرلمانية، بحسب "إن بي آر"، رغبة الحكومة في استعادة السيطرة على الفضاء الرقمي بعد أن "هرب الحصان من الإسطبل" كما قالت والدة إحدى الفتيات، في إشارة إلى صعوبة ضبط سلوك تشكّل عبر سنوات.
تحميل الشركات المسؤولية
ترفض دارسي، وفق تقرير "نيويورك تايمز"، فكرة أن يكون اللوم على المستخدم، وتقول بصراحة: "على شركات التواصل الاجتماعي أن تتحمل مسؤولية كبرى".
يشير تصريحها إلى جوهر الأزمة الحقوقية: هل تعد الدولة الطفل بحاجة للحماية لأنها لا تثق في الشركات، أم لأنها لا تثق بالأهالي، أم لأنها لا تثق بالمراهقين أنفسهم؟
وتؤكد "إن بي آر" أن القانون يُلزم المنصات بحذف حساب أي مستخدم دون 16 عاماً، ويتيح فرض غرامات كبيرة، ومع ذلك، تكشف شهادات المراهقين أن خرق القانون سيكون سهلاً عبر تغيير العمر، أو استخدام VPN، أو حسابات الأشقاء الكبار.
ويرى بعض الآباء، كما توضح "نيويورك تايمز"، أن الحظر يساعدهم على فرض قيود لم يتمكنوا من تطبيقها وحدهم.
يقول والد دارسي: "سنشعر وكأن الحكومة أزاحت عنا عبئاً"، وفي المقابل، يعتقد والد لوكا أن المراهقين يجب أن يخوضوا تجارب الإنترنت بأنفسهم ليتعلموا كيفية التعامل مع المخاطر، معتبراً أنّ المنع المطلق ليس حلاً.
وتتعمق "الغارديان" في زاوية أخرى، حيث ترى فتيات أن الحظر يحدّ من "الحرية الإبداعية" التي يجدنها عبر محتوى الفيديوهات، وأنه غير قادر على فصل الجيل عن أدوات تواصله الأساسية.
الحق في الحماية
تُبرز القصص التي جمعتها المنصات الثلاث أن الأطفال في سن 13–15 عاماً يستخدمون مواقع التواصل بطرق مختلفة، لكنها مرتبطة دائماً بالحاجة إلى التواصل، والهوية، والتعلم الذاتي، ويعني ذلك أن قطع هذا الامتداد قد يخلق فجوة في العلاقات الاجتماعية، أو يعزل بعض الأطفال عن مجموعاتهم.
وتشير شهادات المراهقات في "الغارديان" إلى أنّ التواصل الرقمي أصبح عنصراً أساسياً في علاقة الصديق بالصديق، وأن فقدانه يعني فقدان جزء من الحياة اليومية.
تروي "نيويورك تايمز" احتكاكات يومية بين الأهل والأبناء، وإحساساً عاماً لدى آباء مثل كاثرين بيست بأن "السيطرة فُقدت منذ سنوات"، تفتح هذه الشهادة سؤالاً حقوقياً مهماً: هل تأخرت السياسات إلى حد أن التشريع لم يعد قادراً على مواكبة ما عاشه هذا الجيل بالفعل؟
وفي المقابل، يظهر مثال آخر عبر عائلة دارسي التي تعيش نظاماً دقيقاً لتحديد أوقات استخدام الهاتف، في محاولة لجعل التوازن القائم بين الدراسة والراحة والتواصل أكثر اتساقاً مع الصحة النفسية.
صدمة الانفصال الأول
تذكر أميلي بحسب "نيويورك تايمز"، أنها بدأت لأول مرة بتبادل أرقام الهواتف خشية فقدان حساباتها، ويشير هذا السلوك إلى أن الحظر لا يغيّر فقط ممارسات رقمية، بل يعيد تشكيل الطريقة التي تبني بها الفتيات صداقاتهن.
وتعزز "الغارديان" هذه الفكرة من خلال حديث المراهقات عن "الخوف من الإقصاء" إذا لم يكن لديهن وجود على المنصات، وهو خوف يُعدّ جزءاً أساسياً من التجارب النفسية للجيل الرقمي.
وتشير "إن بي آر" إلى أن الحظر يشمل عشر منصات كبرى، لكنّه لا يشمل تطبيقات مثل Discord، ما يفتح باباً للالتفاف، وهذا يفتح سؤالاً حول مدى كفاءة التشريعات التي تعالج منصة دون أخرى.
ثغرات لا يمكن تجاهلها
تكشف القصص التي عرضتها نيويورك تايمز أن الأطفال قادرون بسهولة على التحايل عبر: تغيير العمر عند التسجيل، استخدام حسابات أحد الوالدين، استخدام هويات الأشقاء، استعمال VPN لإخفاء العمر والموقع، وتؤكد هذه الثغرات عدم قدرة التشريع وحدها على حماية الأطفال من الخواء الرقمي الذي تصنعه الخوارزميات.
يقدّم قانون أستراليا، رسالة واضحة مفادها أن الدولة لن تقبل بسيطرة تطبيقات التواصل على جيل كامل، وتُعد هذه الرسالة حجر الأساس في مدخل حقوقي يعد حماية الطفل مسؤولية لا يمكن تركها بالكامل للعائلة أو للسوق الرقمية.
وفي الوقت نفسه، تكشف شهادات المراهقات أن الجيل الرقمي قد لا يستقبل هذه الرسالة بالطريقة التي يتوقعها المشرّعون، تنهي قصة أستراليا جدلاً عالمياً حول البيئة الرقمية التي يعيش فيها الأطفال لكنها تُطلق في الوقت ذاته نقاشاً أكبر حول: حدود تدخل الدولة في حياة الطفل، مسؤولية الشركات في حماية المستخدمين، قدرة الأسرة على مرافقة الأبناء في الفضاء الرقمي، حق الطفل في المشاركة والتواصل والإبداع.











