تعليم تحت النار.. المدرسة الكاملية نموذج لمقاومة الحصار وبناء الأمل في غزة
تعليم تحت النار.. المدرسة الكاملية نموذج لمقاومة الحصار وبناء الأمل في غزة
في لحظةٍ نادرة وسط حصارٍ خانق وتآكلٍ شبه كامل لمقومات الحياة، أعادت المدرسة الكاملية شرق مدينة غزة إشعال شمعة التعليم بعد أكثر من عامين من الانقطاع التام، لم يكن الأمر مجرد استئنافٍ دراسي، بل فعل حمايةٍ لحقٍ أساسي صادَرته الحرب: حق الطفل في التعلم.
تحوّل مبنى متهالك شُيّد قبل ثمانية عقود، بلا بنى تحتية مدرسية تُذكر، إلى مساحة تُستعاد فيها أبجديات الطفولة، وتُرمَّم فيها شظايا مستقبلٍ قريبٍ مهدد بالضياع، بحسب ما ذكرت وكالة “أنباء المرأة”، اليوم السبت.
نشأت المبادرة في واحدة من أكثر المناطق خطورة شرق المدينة، حيث القرب المباشر من مواقع عسكرية إسرائيلية، وإطلاق متكرر للقذائف والرصاص، ورغم ذلك، قادت المعلمة دينا أبو شعبان هذا الجهد بإصرارٍ يُشبه الانتصار على اليأس.
تقول: “بدأنا من العدم؛ لم نجد مقعداً واحداً أو لوح كتابة، استخدمنا قطع الكرتون للشرح، وجلس الأطفال على الأرض. ومع ذلك واصلنا العمل، وخلال أشهر استوعبنا أكثر من ألف طفل في فترتين صباحية ومسائية، بعد أن وفّرنا مقاعد بسيطة وألواحاً للكتابة”.
هذه البداية القاسية لم تمنع المدرسة من إحداث أثرٍ نفسي عميق؛ فالمبنى التراثي بحجارته القديمة أعاد للأطفال إحساس “المدرسة” بوصفها مكاناً آمناً، وربط حاضرهم المضطرب بماضٍ أكثر استقراراً، ولو بخيطٍ رفيع.
استعادة الطقوس المدرسية
لم يقتصر الجهد على التدريس، بل شمل استعادة الطقوس المدرسية الغائبة: الإذاعة الصباحية، وإحياء المناسبات الوطنية، وكان آخرها فعالية يوم الاستقلال.
تؤكد أبو شعبان: “هذه التفاصيل الصغيرة تصنع فرقاً كبيراً في نفسية التلاميذ الذين يعيشون حرباً مفتوحة”، في سياقٍ تُهدد فيه الأصوات العالية حياة الأطفال، تصبح هذه الطقوس أدوات دعمٍ نفسي وحماية اجتماعية.
تكاد المدرسة الكاملية تكون الوحيدة التي استعادت نشاطها شرق غزة. الخوف حاضر في كل دقيقة، لكن الإرادة كانت أصلب.
تقول المعلمة: “نعيش الخوف كل لحظة، لكن أطفالنا يستحقون فرصة للحياة. لن نسمح أن يُسلَب منهم حقهم مرة أخرى”. هذا الإصرار يُجسّد التعليم بوصفه حقاً غير قابل للتعليق، حتى في أكثر الظروف قسوة.
النساء في الصدارة
يقود هذا المشروع طاقم غالبيته من النساء، يعملن على تطوير المدرسة واستيعاب مزيد من الطلبة عبر خطط تُقدَّم للجمعيات الإنسانية والجهات الداعمة.
تؤكد أبو شعبان الدور المحوري للنساء: “لولا النساء اللواتي وقفن في الصفوف الأولى وبذلن جهداً يفوق طاقتهن، لما أمكن إعادة التعليم هنا. المرأة ليست معلمة فقط؛ إنها قائدة ومساندة وملهمة”.
في ظل غياب المؤسسات الرسمية، بنت النساء منظومة بديلة: ترميم فصول، تجهيز ساحات، إعادة ترتيب الحجارة لتأمين ممرات آمنة، تعويض نقص الكادر بالتدريب الذاتي، وابتكار وسائل تعليمية بديلة—all ذلك بالتوازي مع أدوارهن الأسرية في ظروف نزوح قاسية.
الحق في الطمأنينة
وسط هذا المشهد، تتقدم أصوات الأطفال كمرآةٍ للفجوة التعليمية المتراكمة., تقول الطفلة جوري سكر (8 أعوام): “من حقنا أن نتعلم مثل كل الأطفال في العالم.. نريد صفوفاً حقيقية ومقاعد، لا أن نكتب على الأرض أو في الخيام. ما ذنبنا أن نعيش هذه الحياة القاسية ونُحرم من الأمان والدراسة واللعب؟”.
وتضيف ريناد راضي، التي فقدت منزلها: “أحب المدرسة وأحلم أن أصبح معلمة. تعبنا من النزوح والخوف.. نريد مكاناً نتعلم فيه بلا صوت طائرات”.
هذه الشهادات تُبرز أن الطلب ليس تعليمًا فحسب، بل حقًا في الطمأنينة، ومساحة تحمي الأحلام من الانهيار.
آثار الانقطاع التعليمي
يحذّر مختصون تربويون من أن الانقطاع الطويل يخلّف آثاراً جسيمة على التطور المعرفي والانفعالي، ويصعّب دمج الأطفال لاحقاً في المراحل المتقدمة، خاصة مع غياب التعليم التفاعلي والأنشطة الأساسية لبناء الشخصية والثقة بالنفس.
وفي هذا السياق، تصبح المبادرات النسائية ركيزة إنقاذٍ مجتمعي، لا جهوداً فردية.
ويشكل حرمان أطفال غزة من التعليم للعام الثالث على التوالي يُشكّل انتهاكاً صارخاً للمعايير الدولية، وعلى رأسها اتفاقية حقوق الطفل التي تكفل حق التعلم دون انقطاع، تدمير المرافق التعليمية، وإغلاق المدارس، وتحويل بعضها إلى مراكز إيواء أو ثكنات، خلق فجوة معرفية هائلة وترك آلاف الأطفال خارج المسار الطبيعي لنموهم النفسي والعقلي والاجتماعي.
لم يعد الأمر توقفاً مؤقتاً، بل واقع يقوّض قدرة الأطفال على بناء مستقبلهم ويهدد جيلاً كاملاً بفقدان المهارات الأساسية، وفي ظل غياب حماية دولية فعّالة، يدفع الأطفال ثمناً باهظاً يتمثل في ضياع أعوام دراسية وتآكل فرص الحياة الكريمة.
خلاصة حقوقية
التعليم في غزة ليس رفاهية ولا بنداً قابلاً للتأجيل؛ إنه ضرورة إنسانية وحق غير قابل للمساومة. تُظهر تجربة المدرسة الكاملية أن الإرادة المجتمعية، وخاصة النسائية، قادرة على بناء بدائل، لكنها لا تُعفي المجتمع الدولي من مسؤولياته القانونية والأخلاقية.
ويعبر إعادة الاعتبار لحق التعليم، وتوفير حماية فورية للمرافق التعليمية، ودعم المبادرات المحلية، خطوات عاجلة لا تحتمل التأجيل لحماية أطفالٍ لا يطلبون سوى حقهم في الحياة والتعلّم بأمان.











