مع صعود اليمين المتطرف.. كيف تحوّلت معاداة المهاجرين إلى سياسة عامة في أوروبا؟
مع صعود اليمين المتطرف.. كيف تحوّلت معاداة المهاجرين إلى سياسة عامة في أوروبا؟
تشهد أوروبا في المرحلة الراهنة تصاعدا غير مسبوق في الخطاب المعادي للمهاجرين، تحوّل من مجرد نقاش سياسي موسمي إلى عنصر مركزي يعيد تشكيل السياسات العامة ويؤثر بعمق في النسيج الاجتماعي، هذا التحول لم يعد محصورا في أطراف المشهد السياسي، بل بات حاضرا في قلب الخطاب الحكومي والإعلامي، ومصحوبا بارتفاع مقلق في جرائم الكراهية وأعمال العنف، وبصعود متسارع للأحزاب اليمينية المتشددة التي توظف الخوف والقلق الاجتماعي لتحقيق مكاسب انتخابية.
قضية مصيرية
أفاد تقرير نشره موقع صحيفة "المنشر"، اليوم الأحد، بأنه خلال العام الأخير، انتقلت قضية الهجرة من كونها موضوعا إداريا أو إنسانيا إلى قضية وجودية في الخطاب السياسي الأوروبي، ففي بريطانيا، خرج عشرات الآلاف في مسيرات حاشدة وسط لندن، ردد المشاركون فيها شعارات تطالب بإعادة المهاجرين إلى بلدانهم، في مشهد عكس تحولا عميقا في المزاج العام ولم تتوقف الأمور عند الشارع، بل امتدت إلى قبة البرلمان، حيث دعا بعض النواب إلى ترحيل مقيمين أجانب عاشوا في البلاد لعقود طويلة، وذهب آخرون إلى انتقاد ظهور أشخاص غير بيض في وسائل الإعلام، دون أن تترتب على هذه التصريحات أي مساءلة سياسية أو قانونية.
هذا المناخ لم يعد استثناء في بريطانيا، بل بات سمة مشتركة في عدد من الدول الأوروبية، حيث تتقدم قوى سياسية تتبنى خطابا متشددا تجاه الهجرة وتصورها باعتبارها تهديدا مباشرا للهوية الوطنية والأمن الاجتماعي.
صعود اليمين المتطرف
تشير استطلاعات الرأي في عدة دول أوروبية إلى صعود لافت للأحزاب اليمينية المتشددة، في بريطانيا، يحقق حزب الإصلاح حضورا متزايدا في النقاش العام. في ألمانيا، يواصل حزب التحالف من أجل ألمانيا توسيع قاعدته الشعبية، خصوصا في الولايات الشرقية. أما في فرنسا، فيحافظ التجمع الوطني على موقعه كقوة سياسية رئيسية قادرة على التأثير في السياسات الوطنية.
هذه الأحزاب لا تكتفي بخطاب معادٍ للهجرة، بل تطرح برامج تدعو إلى الترحيل الجماعي، وتشديد قوانين الإقامة والجنسية، وربط المشكلات الاقتصادية والاجتماعية بشكل مباشر بوجود المهاجرين، ما يسهم في تأجيج المخاوف وإعادة تعريف الانتماء الوطني بصورة إقصائية.
الأزمات الاقتصادية وقود للكراهية
يرى محللون أن تصاعد الخطاب المعادي للمهاجرين لا يمكن فصله عن السياق الاقتصادي العام، فالقارة الأوروبية لم تتعافَ بشكل كامل من آثار الأزمة المالية العالمية عام 2008، وتوالت بعدها أزمات أخرى، من جائحة كورونا إلى ارتفاع تكاليف المعيشة والطاقة، وهذا الشعور بعدم الاستقرار الاقتصادي خلق بيئة خصبة لخطابات تلقي باللوم على الفئات الأضعف، وفي مقدمتها المهاجرون.
في ظل هذا الواقع، يبرز سياسيون يوظفون القلق الاجتماعي ويقدمون أنفسهم كحماة للهوية الوطنية، مستخدمين لغة مبسطة وحادة تختزل الأزمات المعقدة في شماعة الهجرة.
دور وسائل التواصل الاجتماعي
تلعب منصات التواصل الاجتماعي دورا محوريا في تضخيم الخطاب المتطرف نحو المهاجرين، فخوارزميات هذه المنصات تميل إلى الترويج للمحتوى المثير للانقسام، ما يمنح خطاب الكراهية انتشارا واسعا وسريعا، وتشير دراسات إعلامية إلى أن منصات مثل إكس أصبحت فضاء خصبا لإعادة نشر أفكار اليمين المتطرف، خصوصا مع قيام شخصيات نافذة بإعادة مشاركة محتوى يحمل رسائل إقصائية أو تحريضية.
هذا الفضاء الرقمي أسهم في تطبيع لغة الكراهية، ونقلها من الهامش إلى التيار العام، ما جعل تأثيرها أكثر عمقا وأوسع انتشارا، خصوصا بين فئات الشباب.
ارتفاع جرائم الكراهية والعنف
انعكست هذه الأجواء المشحونة بشكل مباشر على الواقع الأمني، ففي بريطانيا، سجلت الشرطة في إنجلترا وويلز أكثر من 115000 جريمة كراهية خلال السنة المنتهية في مارس 2025، بزيادة ملحوظة مقارنة بالعام السابق، وأفادت النائبة البريطانية دون باتلر بأن التهديدات التي تتلقاها عبر الإنترنت تصاعدت إلى حد تلقي تهديدات بالقتل، في مؤشر خطير على تآكل الخط الفاصل بين الخطاب والعنف.
كما شهدت البلاد موجة احتجاجات وأعمال عنف عقب مقتل 3 فتيات في يوليو 2024 خلال فصل رقص مستوحى من أعمال فنية شهيرة، حيث أسهمت معلومات مضللة انتشرت عبر الإنترنت في توجيه الاتهام إلى مهاجر مسلم تبين لاحقا براءته، وفي دول مثل هولندا وأيرلندا، تحولت احتجاجات على إنشاء مراكز استقبال للاجئين في بعض الأحيان إلى مواجهات عنيفة، شملت إطلاق ألعاب نارية على قوات الأمن.
الأحزاب التقليدية نحو تشدد غير مسبوق
في محاولة لاحتواء صعود اليمين المتطرف، اتجهت أحزاب تقليدية في الوسط واليسار نحو تبني سياسات أكثر تشددا في ملف الهجرة، وشملت هذه السياسات جعل الحصول على الإقامة الدائمة أكثر صعوبة، واستلهام نماذج صارمة مثل التجربة الدنماركية، إضافة إلى طرح مقترحات بترحيل مزدوجي الجنسية المدانين بجرائم خطيرة، كما أعلنت الحكومة البريطانية وبعض الحكومات الأوروبية.
ويرى منتقدون أن هذا التوجه لا يحد من نفوذ اليمين المتطرف، بل يمنحه شرعية إضافية، ويؤدي إلى انزلاق تدريجي في الخطاب العام نحو مزيد من الإقصاء
تصريحات سياسية تثير الجدل
أثارت تصريحات بعض القادة الأوروبيين جدلا واسعا. رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر استخدم عبارة جزيرة الغرباء، وهي عبارة أعادت إلى الأذهان خطابا تاريخيا معاديا للمهاجرين يعود إلى عام 1968،وفي ألمانيا، واجه المستشار فريدريش ميرتس انتقادات بعد تصريحات تحدث فيها عن ملامح المدن، اعتبرها البعض تلميحا إقصائيا، رغم تأكيده لاحقا على أهمية الهجرة لدعم الاقتصاد وقطاعات حيوية مثل الصحة.
احتجاجات منظمة وخطاب الاستبدال
في سبتمبر 2025، شهدت لندن واحدة من أكبر المسيرات اليمينية، بمشاركة أكثر من 100000 شخص تحت شعار استعادة البلاد، ونظمت المسيرة من قبل ناشطين معروفين بخطابهم المتطرف، وشارك فيها سياسيون أوروبيون دعوا إلى مواجهة ما وصفوه بالاستبدال الديمغرافي، وهي نظرية لطالما حذرت منها منظمات حقوقية باعتبارها محفزا مباشرا للعنف.
تحذيرات حقوقية من المستقبل
حذر مفوض حقوق الإنسان في مجلس أوروبا مايكل أوفلاهرتي من أن التركيز المتزايد على المهاجرين كتهديد قد يفتح الباب مستقبلا لاستهداف جماعات أخرى، مؤكدا أن السياسات المبنية على الخوف تخلق دوامة لا تنتهي من الإقصاء والمطالب المتطرفة، كما شدد خبراء على أن تشديد الخطاب السياسي يوسع الانقسامات ويقوض أسس التعايش التي قامت عليها المجتمعات الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية.
عرفت أوروبا منذ عقود موجات هجرة متعاقبة أسهمت في إعادة بناء اقتصاداتها وسد النقص في قطاعات حيوية مثل الصناعة والرعاية الصحية والخدمات، إلا أن الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وتحديات الاندماج غير المكتملة، وصعود التيارات الشعبوية، أعادت تشكيل النظرة إلى الهجرة، ومع تزايد أعداد اللاجئين منذ عام 2015، دخلت القارة مرحلة جديدة من الجدل الحاد حول الهوية والأمن والعدالة الاجتماعية، واليوم، يقف المشروع الأوروبي أمام اختبار صعب يتمثل في قدرته على الموازنة بين حماية حقوق الإنسان والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، في وقت لم تعد فيه معاداة المهاجرين ظاهرة هامشية، بل عاملا رئيسيا يعيد رسم ملامح السياسة والمجتمع في أوروبا.











