45 عاماً من العطاء.. مريم صالح وجه إنساني لا يغيب عن مستشفى تعز
45 عاماً من العطاء.. مريم صالح وجه إنساني لا يغيب عن مستشفى تعز
لم يكن العمل التطوعي في حياة مريم أحمد عبده صالح مجرد فعل عابر أو مبادرة موسمية، بل تحوّل على مدى أكثر من أربعة عقود إلى رسالة حياة متكاملة، نسجتها امرأة يمنية بسيطة حوّلت الألم الشخصي والفقد والمعاناة الاقتصادية إلى قوة داخلية تمنح الآخرين الأمل والطمأنينة، وفي مدينة تعز جنوبي اليمن، يُعرِّفها الجميع بلقب أم الخير، اسم أصبح مرادفا للعطاء الصامت والالتزام الإنساني الذي لا يتبدل رغم الحروب والفقر وتقلبات الحياة.
في أحد أحياء المدينة، تمضي السبعينية مريم صالح بخطوات ثابتة كل يومي الاثنين والخميس نحو مستشفى الأمراض النفسية والعقلية، تحمل معها ما تيسر من طعام أو كسوة أو فاكهة، وتدخل المكان كما لو كانت تدخل بيتها الثاني، تتفقد المرضى واحدا واحدا، تحفظ أسماءهم وملامحهم، وتعرف قصصهم وأوجاعهم، وتمنحهم ما تستطيع من رعاية واهتمام، في عمل لم ينقطع منذ أكثر من 40 عاما، وفق ما أوردته وكالة أنباء المرأة الجمعة.
رحلة بدأت دون تخطيط
تعود حكاية مريم صالح إلى نحو 45 عاما من العمل الإنساني في اليمن، حين كانت في بداية الثلاثينيات من عمرها، لم تكن آنذاك تتخيل أن تصبح جزءا ثابتا من حياة نزلاء مستشفى الأمراض النفسية، ولم تخطط لمسار طويل من العمل الإنساني، البداية كانت بسيطة، زيارة عابرة بدافع الفضول والرغبة في المساعدة، لكنها سرعان ما تحولت إلى عادة، ثم إلى التزام روحي وأخلاقي لا تستطيع التخلي عنه.
تستعيد مريم تلك البدايات قائلة إن حياتها كانت مليئة بالتحديات حتى قبل دخولها عالم التطوع، وكانت تملك دكانا صغيرا تعتاش منه، لكن الإفلاس أجبرها على إغلاقه، لم تستسلم، وانتقلت إلى بيع الخضار في الأسواق الشعبية لتأمين قوت يومها، في خضم تلك الظروف القاسية، راودتها فكرة العمل التطوعي، فبدأت تزور مستشفى الأمراض النفسية ثم نزلاء السجن المركزي، تمد يد العون وتكتشف معنى جديدا للحياة، كما تصفه.
العطاء في مواجهة الرفض
لم يكن طريق أم الخير سهلا، فإلى جانب ضيق الحال، واجهت رفضا داخل محيطها العائلي، لم يكن أبناؤها الصغار يفهمون سبب غيابها المتكرر، وكانوا يتساءلون عن جدوى ترك العمل والذهاب إلى أماكن يرونها موحشة، كانت تخفي عنهم حقيقة وجهتها، وتقول إنها تزور صديقة مريضة، خوفا من أن ينقلوا الأمر إلى والدهم ويمنعها من مواصلة زياراتها.
رغم ذلك، لم تتراجع؛ كانت تؤمن أن ما تفعله ليس ترفا ولا مضيعة للوقت، بل واجبا إنسانيا تجاه فئة منسية في اليمن لا تجد من يسأل عنها، ومع مرور السنوات، ترسخ هذا الإيمان في داخلها، وأصبح جزءا من هويتها.
أم وأب في آن واحد
منعطف آخر غيّر حياة مريم صالح تمثل في وفاة زوجها، لتجد نفسها مسؤولة وحدها عن تربية أبنائها، وتقول إنها أجبرت على أن تكون لهم الأم والأب معا، وأن تضمن ألا يحتاجوا لأحد. عملت سنوات طويلة في ظروف اقتصادية قاسية، وحرصت على تعليم أبنائها حتى كبروا واستطاعوا الاعتماد على أنفسهم.
لم تنسَ أم الخير عملها التطوعي خلال تلك المرحلة الصعبة، لكنها كانت تمارسه بحدود إمكانياتها، ومع استقرار حياة أبنائها لاحقا، بدؤوا يدعمونها ويشجعونها، وأصبحوا جزءا من رحلتها الإنسانية، يمدونها بما يستطيعون لتستمر في مساعدة نزلاء المستشفى.
الوحدة التي يملؤها العطاء
منذ عام 2011، انتقل أبناؤها إلى العاصمة اليمنية صنعاء بحثا عن فرص عمل، وباتت مريم صالح تعيش وحدها، غير أن الوحدة لم تتحول إلى عبء قاتل، إذ وجدت في زياراتها الأسبوعية للمستشفى تعويضا عن غياب الأبناء وضجيج البيت، هناك، بين المرضى، تشعر بأنها محاطة بعائلة أخرى، تحتاجها كما تحتاجهم.
تدخل المستشفى وهي تحمل الخبز أو التمر أو الفاكهة أو قطعة ملابس، وتوزعها بمحبة، ثم تجلس لتستمع؛ لا تكتفي بإعطاء الأشياء، بل تمنح وقتها واهتمامها، وهو ما تعتبره أهم من أي مساعدة مادية... بالنسبة لها، هذا العمل واجب أخلاقي قبل أن يكون تطوعا، ورسالة إنسانية لا تقبل التوقف.
تحديات العمر والغلاء
اليوم، ومع تقدمها في السن واشتداد الأزمة الاقتصادية والمعيشية في اليمن، أصبحت رحلة أم الخير أكثر صعوبة، الغلاء المتصاعد وتراجع القدرة الشرائية جعلا من الصعب عليها توفير ما كانت تقدمه في السابق، وتقول إن أكثر ما يؤلمها ليس الوحدة ولا التعب، بل عجزها أحيانا عن تلبية احتياجات المرضى كما كانت تفعل سابقا.
ومع ذلك، لم تفكر يوما في التوقف، بالنسبة لها، المرضى جزء من عائلتها، ووجودها بينهم أصبح فرضا لا تستطيع التخلف عنه، حتى في أيام المرض أوالإرهاق، تحرص على الوصول، ولو بالقليل.
رمز إنساني في مدينة مثقلة بالجراح
تحوّلت مريم صالح مع مرور السنوات إلى رمز إنساني في مدينة تعز، التي عانت من الحرب والحصار والانقسام، في وقت انهارت فيه مؤسسات كثيرة، وباتت الفئات الهشة أكثر عرضة للإهمال، بقيت أم الخير شاهدا على أن العمل الفردي يمكن أن يصنع فارقا حقيقيا.
قصتها ليست مجرد حكاية امرأة طيبة، بل نموذج لقوة الإنسان حين يختار العطاء طريقا للحياة، دون دعم من مؤسسات أو جمعيات، وبإمكانيات شديدة البساطة، استطاعت أن تحافظ على استمرارية عملها، وأن تبني جسورا من الثقة والرحمة مع نزلاء مستشفى غالبا ما يُنظر إليهم بعين الخوف أو الإقصاء.
يعاني قطاع الصحة النفسية في اليمن من تدهور حاد نتيجة سنوات من الصراع المسلح والأزمة الاقتصادية المستمرة، مستشفيات الأمراض النفسية تعاني نقصا كبيرا في التمويل والكادر الطبي والخدمات الأساسية، فيما يتعرض المرضى للوصم الاجتماعي والإهمال، وفي ظل ضعف دور المؤسسات الرسمية والمنظمات الإنسانية في هذا المجال، تبرز المبادرات الفردية كطوق نجاة إنساني يخفف من معاناة المرضى.
قصة مريم صالح تعكس هذا الواقع بوضوح، وتسلط الضوء على أهمية الدور المجتمعي في دعم الفئات الأكثر هشاشة، خاصة في بيئات أنهكتها الحرب والفقر، حيث يصبح العطاء الفردي فعلا مقاوما للنسيان واليأس.










