بين ضغط الامتحانات وقلق المستقبل.. عائلات صينية تبحث عن بدائل تعليمية

بين ضغط الامتحانات وقلق المستقبل.. عائلات صينية تبحث عن بدائل تعليمية
صينية تتلقى تعليمها عبر الإنترنت

في شقة هادئة بمدينة شنغهاي، تبدأ إستيلا يومها الدراسي بطريقة مختلفة عن ملايين الأطفال في سنها داخل الصين؛ بلا زيٍّ مدرسي ولا جرس صباحي ولا صفوف مكتظة، بدلا من ذلك تتنقل بين تعلم اللغة الإسبانية ودروس في الوخز بالإبر وتمارين التسلق في صالة رياضية قريبة، وهذا المسار غير التقليدي بدأ قبل 3 سنوات عندما قرر والداها إخراجها من المدرسة الرسمية، في خطوة تعكس شكوكا متزايدة لدى بعض العائلات الصينية تجاه نظام تعليمي عُرف لعقود بصرامته وانضباطه.

وبحسب تقرير لوكالة فرانس برس الثلاثاء، فإن عددا محدودا -لكنه آخذ في الازدياد من الأسر الصينية- بدأ يتجه نحو التعليم المنزلي، رغم أنه محظور رسميا، مدفوعا بمخاوف من ضغوط المناهج، وتراجع قيمة الشهادات، وتسارع التغيرات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي على مستقبل العمل والمعرفة.

قلق من مناهج لا تواكب المستقبل

يقول والدَا إستيلا إن قرارهما لم يكن تمردا بقدر ما كان محاولة لحماية ابنتهما من مسار تعليمي يريان أنه مرهق وغير مرن، فاليوم الدراسي في المدارس الرسمية قد يمتد إلى 10 ساعات، وغالبا ما يستكمل في المساء بواجبات منزلية ودروس خصوصية. هذا الإيقاع، بحسب دراسات محلية، أدى إلى ارتفاع مستويات القلق والإرهاق بين التلاميذ.

والدة إستيلا، وهي في الأربعين من عمرها، ترى أن العالم يتغير بسرعة تفوق قدرة المناهج التقليدية على اللحاق به، وتؤكد أن نماذج التعليم ووظائف المستقبل ستشهد تحولات جذرية بفعل الذكاء الاصطناعي، وأن العائلة أرادت التكيف مبكرا مع هذا الغموض المتزايد، بالنسبة لها، لا يكمن الهدف في جمع الدرجات بل في بناء شخصية قادرة على التفكير المستقل.

نمو بطيء لظاهرة محظورة

رغم أن التعليم المنزلي غير قانوني في الصين، فإن السلطات تتغاضى غالبا عن الحالات الفردية النادرة طالما لم تتحول إلى ظاهرة علنية، وفي عام 2017، لم يتجاوز عدد الأطفال الذين يتلقون تعليمهم في المنزل 6000 من أصل نحو 145 مليون تلميذ في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، لكن الأرقام تشير إلى نمو سنوي يقارب 30 في المئة منذ عام 2013، وفق معهد توينتي فرست سنتشري إدوكايشن ريسيرتش في بكين.

يرى مؤيدو هذا النمط التعليمي أن المرونة الزمنية والمشاريع العملية والأنشطة الخارجية تتيح مساحة أوسع للإبداع، الذي يعتبرونه مقيدا داخل الفصول التقليدية، في حالة إستيلا، استعان والداها بمدرسين خصوصيين للعلوم والرياضيات واللغة الإسبانية والرياضة، فيما يشاركونها في وضع جدولها الدراسي بما يتناسب مع اهتماماتها.

بين الشهادات وسوق العمل

يتزامن هذا التحول مع تساؤلات أوسع داخل المجتمع الصيني حول جدوى الشهادات الجامعية في ظل تشبع سوق العمل، ففي عام 2023، لم يتمكن سوى أقل من 20 في المئة من خريجي جامعة فودان المرموقة في شنغهاي من العثور على وظيفة فور تخرجهم، كما بلغت نسبة البطالة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاما نحو 18.9 في المئة في أغسطس، بحسب المكتب الوطني للإحصاء.

يشير باحثون في شؤون التعليم إلى أن الصين تخرج أعدادا ضخمة من حاملي شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، في وقت تتقلص فيه الوظائف التي يسعى إليها الشباب، ويدفع هذا الواقع بعض العائلات إلى إعادة التفكير في مسار يبدأ بامتحانات قاسية وينتهي بمنافسة شرسة على فرص محدودة.

الذكاء الاصطناعي يدخل البيوت

في مقاطعة تشجيانغ، تستخدم أم لطفل يبلغ 9 سنوات برامج دردشة آلية لإعداد دروس حول مواضيع مثل إعادة التدوير، فالطفل يتعلم في الصباح اللغة الصينية والرياضيات باستخدام مواد مدرسته السابقة، ويقضي فترة ما بعد الظهر في مشاريع تطبيقية وأنشطة خارجية. الأم، وهي معلمة سابقة، ترى أن تطور الذكاء الاصطناعي قلل من الحاجة إلى التلقين الصفي التقليدي.

مع ذلك، لا تخفي هذه الأم نيتها إعادة تسجيل ابنها في المدرسة مستقبلا، معتبرة أن التعليم المنزلي يعجز عن تلبية الاحتياجات الاجتماعية للأطفال، فالتفاعل اليومي مع أقران العمر يبقى عنصرا أساسيا في النمو النفسي والاجتماعي.

العزلة ثمن محتمل

هذا الجانب الاجتماعي يشكل نقطة ضعف يعترف بها حتى من خاضوا التجربة، فقد توقفت غونغ ييمي، البالغة 24 عاما، عن الذهاب إلى المدرسة في سن 8 سنوات عندما قرر والدها أن تتفرغ للفن، ودرست في المنزل مع عدد محدود من المعلمين، وكان معظم أصدقائها أكبر منها بكثير، وأكثر ما افتقدته آنذاك كان صحبة الأطفال في سنها.

لكن غونغ ترى أن العزلة منحتها في المقابل وقتا للتأمل واكتشاف الذات، فهي تعتقد أن طرح الأسئلة حول ما تحبه وما تريده ومعنى ما تقوم به ساعدها على بناء وعي مبكر بذاتها، وهي اليوم تطمح لإطلاق مشروع ناشئ في قطاع التعليم.

بين الطموح والواقع

تسعى السلطات الصينية في السنوات الأخيرة إلى تخفيف حدة التنافس داخل المدارس، عبر الحد من الدروس الخصوصية وتشجيع التوازن بين الدراسة والحياة، ومع ذلك، يبقى النظام قائما على امتحانات مصيرية تحدد مستقبل الطلاب، ما يجعل أي خروج عنه مغامرة محسوبة بعناية من قبل العائلات.

التعليم المنزلي في الصين لا يزال خيارا هامشيا، لكنه يعكس نقاشا أوسع حول معنى التعليم وجدواه في عالم سريع التغير، وبين ضغط الامتحانات وقلق المستقبل، تحاول بعض الأسر رسم مسار بديل لأبنائها، حتى وإن كان ذلك خارج الإطار القانوني، بحثا عن تعليم أكثر إنسانية وملاءمة لعصر جديد.

يعد نظام التعليم الصيني من الأكثر تنافسية في العالم، ويرتكز على امتحانات وطنية حاسمة مثل امتحان القبول الجامعي المعروف باسم غاوكاو، الذي يحدد إلى حد كبير المسار الأكاديمي والمهني للطلاب، وعلى مدى عقود، أسهم هذا النظام في تخريج قوى عاملة مؤهلة دعمت النمو الاقتصادي السريع للبلاد، غير أن التحولات التكنولوجية، وارتفاع بطالة الشباب، وتشبع سوق العمل بالشهادات، أعادت فتح النقاش حول فعالية النموذج القائم، ودوره في إعداد أجيال قادرة على التكيف مع اقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية