التحرر الوهمي.. كيف تفرض التكنولوجيا قيوداً جديدة على المرأة تحت شعار التمكين؟

التحرر الوهمي.. كيف تفرض التكنولوجيا قيوداً جديدة على المرأة تحت شعار التمكين؟
يوم المرأة العالمي - أرشيف

في عالم يتباهى بالتقدم التكنولوجي والانفتاح الثقافي، تبرز أشكال جديدة من القمع تتخذ طابعًا أكثر تعقيدًا وخفاءً، حيث يتم إعادة إنتاج التمييز بأساليب مبتكرة تبدو للوهلة الأولى وكأنها تعكس "حرية" و"تمكينًا" للمرأة، بينما هي في الحقيقة تعيد ترسيخ القيم الذكورية وتعمق الفجوة بين الجنسين. 

وتعد هذه الظاهرة تحول جذري في آليات الهيمنة، حيث يتم تقديم القمع على أنه "خيار شخصي" أو "تعبير عن الذات"، ما يجعل مقاومته أكثر صعوبة. وفي الوقت الذي نحتفل فيه بيوم المرأة الدولي، الذي يصادف الثامن من مارس من كل عام، نجد أنفسنا أمام تحديات جديدة تعكس تراجعًا في حقوق المرأة على مستوى العالم، وفقًا لتقارير أممية حديثة.

ويمثل يوم المرأة الدولي، الذي يُحتفل به منذ أكثر من قرن، مناسبة لتسليط الضوء على إنجازات النساء في مختلف المجالات، وكذلك لتذكير العالم بالتحديات التي ما تزال تواجهها المرأة في سعيها نحو المساواة والعدالة ومع ذلك، فإن التقرير الصادر عن الأمم المتحدة في مارس 2025 يكشف عن صورة قاتمة لحقوق المرأة، حيث أفاد بأن حقوق النساء تراجعت في ربع دول العالم خلال عام 2024 وأشار التقرير إلى أن امرأة تُقتل كل عشر دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها، وهو ما يعكس استمرار العنف القائم على النوع الاجتماعي بمعدلات مقلقة.

وفي السنوات الأخيرة، شهدنا تزايدًا في ظاهرة إقناع النساء بأن القمع هو جزء من "حريتهن الشخصية" هذه الفكرة يتم تعزيزها عبر منصات التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي، حيث يتم تقديم صور نمطية عن الأنوثة على أنها "تمكين" أو "تحرر"،مثالًا، يتم الترويج لفكرة أن ارتداء الملابس الضيقة أو المشاركة في سلوكيات جنسية معينة هو تعبير عن الحرية الجسدية لكن في الواقع، هذه الصور تعيد إنتاج القيم الذكورية التي تقيد النساء في إطار جنسي محدد، وتجعل من أجسادهن سلعة قابلة للاستهلاك. 

وفقًا لتقرير صادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" في عام 2022، فإن 67% من النساء في العالم العربي يشعرن بأن التوقعات الاجتماعية حول مظهرهن وسلوكهن الجنسي تفرض عليهن قيودًا حتى لو تم تقديمها على أنها "خيارات شخصية".

وباتت التكنولوجيا، التي يفترض أنها أداة للتحرر، وسيلة فعالة لإعادة إنتاج التمييز. خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام تعزز الصور النمطية للجنسين من خلال الترويج للمحتوى الذي يتوافق مع التوقعات الاجتماعية التقليدية، دراسة أجرتها جامعة هارفارد في عام 2021 أظهرت أن 72% من الإعلانات التي تستهدف النساء على منصات التواصل الاجتماعي تعزز أدوارًا جندرية تقليدية، مثل الاعتناء بالمنزل أو الاهتمام بالمظهر الجسدي. هذه الخوارزميات لا تعكس فقط التحيزات الموجودة في المجتمع، بل تعمل على تعزيزها، مما يجعل من الصعب على النساء الخروج من هذه الصور النمطية.

وتلعب الثقافة الشعبية دورًا كبيرًا في إعادة إنتاج القيم الذكورية، الأفلام والمسلسلات والإعلانات التجارية غالبًا ما تقدم صورًا للنساء تعكس أدوارًا محددة ومقيدة، مثالًا، في عالم السينما، ما تزال الشخصيات النسائية تعاني من نقص في التمثيل والتعقيد وفقًا لتقرير صادر عن معهد "جينا ديفيس" لدراسات الجندر في الإعلام في عام 2023، فإن 34% فقط من الشخصيات الرئيسية في الأفلام العالمية هي نساء، وغالبًا ما يتم تصويرهن في أدوار تدور حول العلاقات العاطفية أو الأسرة، بدلًا من تقديمهن كشخصيات مستقلة ومعقدة هذه الصور لا تعكس فقط الواقع، بل تساهم في تشكيله، حيث يتم تعزيز فكرة أن مكانة المرأة مرتبطة بجاذبيتها الجسدية أو قدرتها على إرضاء الرجل.

وفي عالم الموضة، يتم تقديم "التحرر" من خلال الإعلانات التي تروج للملابس الداخلية أو مستحضرات التجميل على أنها أدوات للتمكين. لكن هذه الرسائل غالبًا ما تكون مضللة، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا في عام 2022، فإن 58% من النساء يشعرن بأن الإعلانات التي تروج لمنتجات التجميل تعزز الشعور بعدم الكفاءة الجسدية، مما يدفعهن إلى شراء المزيد من المنتجات لتحقيق معايير جمالية غير واقعية هذه الظاهرة تعيد إنتاج فكرة أن قيمة المرأة تكمن في مظهرها، وهو ما يعيدنا إلى القيم الذكورية التقليدية التي تقيد النساء في إطار جمالي محدد.

وفي عالم العمل، يتم تقديم فكرة "التوازن بين العمل والحياة" كحل سحري لمشكلة التمييز الجندري. لكن في الواقع، هذه الفكرة غالبًا ما تضع العبء على النساء، حيث يتم توقعهن أن يكن ناجحات في العمل وفي المنزل في نفس الوقت، وفقًا لتقرير صادر عن منظمة العمل الدولية في عام 2023، فإن النساء يقضين في المتوسط 4.5 ساعات يوميًا في الأعمال المنزلية غير مدفوعة الأجر، مقارنة بـ 1.5 ساعة للرجال. هذا التفاوت يجعل من الصعب على النساء تحقيق التقدم المهني، خاصة في المجالات التي تتطلب ساعات عمل طويلة. 

وفي عالم السياسة، يتم استخدام لغة "التمكين" لتبرير استبعاد النساء من مراكز صنع القرار، على سبيل المثال، في بعض الدول العربية، يتم تقديم فكرة أن النساء "غير مستعدات" للقيادة السياسية بسبب "طبيعتهن" أو "مسؤولياتهن العائلية" هذه الحجج تعيد إنتاج القيم الذكورية التي تقيد النساء في أدوار تقليدية، بينما يتم تقديمها على أنها حماية لمصالحهن وفقًا لتقرير صادر عن الاتحاد البرلماني الدولي في عام 2023، فإن النساء يشكلن فقط 25% من البرلمانيين على مستوى العالم.

تمييز مُعاد تصنيعه

وفي السياق، قالت الإعلامية التونسيسة، ريم خليفة، إن المرأة العربية تعاني في كل الاحول ويتم استغلالها بكل الأشكال، وفي في ظل التطور التكنولوجي والثقافي الذي يشهده العالم اليوم، أصبحت أشكال التمييز ضد المرأة تتخذ طابعًا أكثر تعقيدًا وخفاءً، حيث يتم إعادة إنتاج القيم الذكورية بأساليب مبتكرة تظهر وكأنها تعكس "حرية" و"تمكينًا" للمرأة، بينما هي في الحقيقة تعيد إخضاعها لنفس القيود القديمة، ولكن بطرق أكثر دهاءً، هذه الظاهرة ليست مجرد استمرار للتمييز التقليدي، بل هي تحول في آليات الهيمنة، حيث يتم تقديم القمع على أنه "خيار شخصي" أو “تعبير عن الذات”.

وتابعت خليفة، في تصريحات لـ"جسوربوست"، أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو استغلال المرأة في صناعة الإعلانات الرقمية، حيث يتم تقديمها كرمز للجمال والأناقة، ولكن في إطار يكرس الصور النمطية التقليدية على سبيل المثال، تُستخدم النساء في الإعلانات الترويجية لمنتجات التجميل والموضة، ولكن بدلًا من تعزيز فكرة التحرر، يتم حصرهن في إطار جمالي ضيق، مما يزيد من الضغوط النفسية والاجتماعية عليهن. هذه الظاهرة لا تعكس فقط استغلال المرأة، بل تعيد إنتاج فكرة أن قيمتها تكمن في مظهرها الخارجي، وهو ما يعيدنا إلى القيم الذكورية التقليدية.

واسترسلت، في عالم التكنولوجيا، أصبحت المنصات الرقمية أداة قوية لإعادة إنتاج التمييز خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي، مثل إنستغرام وتيك توك، تعزز الصور النمطية للجنسين من خلال الترويج للمحتوى الذي يتوافق مع التوقعات الاجتماعية التقليدية على سبيل المثال، يتم تشجيع النساء على مشاركة صورهن الشخصية ومقاطع الفيديو التي تعكس "الجمال المثالي"، مما يخلق بيئة تنافسية غير صحية.

وقالت إن الأفلام والمسلسلات تلعب دورًا كبيرًا في تعزيز الصور النمطية للنساء، على الرغم من التقدم الذي تم إحرازه في السنوات الأخيرة، لا تزال الشخصيات النسائية تعاني من نقص في التمثيل والتعقيد، هذه الصور لا تعكس فقط الواقع، بل تساهم في تشكيله، حيث يتم تعزيز فكرة أن مكانة المرأة مرتبطة بجاذبيتها الجسدية أو قدرتها على إرضاء الرجل، وفي عالم العمل، يتم تقديم فكرة "التوازن بين العمل والحياة" كحل سحري لمشكلة التمييز الجندري. لكن في الواقع، هذه الفكرة غالبًا ما تضع العبء على النساء، حيث يتم توقعهن أن يكن ناجحات في العمل وفي المنزل في نفس الوقت. 

وأشارت خليفة، إلى ان هذا التفاوت يجعل من الصعب على النساء تحقيق التقدم المهني، خاصة في المجالات التي تتطلب ساعات عمل طويلة ومع ذلك، يتم تقديم هذا الوضع على أنه "خيار شخصي"، حيث يتم إقناع النساء بأنهن قادرات على تحقيق التوازن إذا حاولن بجهد أكبر.

وقالت إنه في عالم السياسة، يتم استخدام لغة "التمكين" لتبرير استبعاد النساء من مراكز صنع القرار. على سبيل المثال، في بعض الدول العربية، يتم تقديم فكرة أن النساء "غير مستعدات" للقيادة السياسية بسبب "طبيعتهن" أو "مسؤولياتهن العائلية" هذه الحجج تعيد إنتاج القيم الذكورية التي تقيد النساء في أدوار تقليدية، بينما يتم تقديمها على أنها حماية لمصالحهن.

سيطرة مقنّعة أم حرية مُضلِّلة؟ 

وقالت الناشطة الحقوقية اليمنية، ألفت منصور، لدينا في المجتمعات التي تعاني من النزاعات والأزمات الاقتصادية، كاليمن، يتفاقم هذا التمييز بأساليب مزدوجة فمن جهة، يتم استغلال النساء كقوة عاملة غير رسمية في ظل تدهور الاقتصاد، ومن جهة أخرى، تُحاصر النساء في أدوار اجتماعية تقليدية يُعاد إنتاجها كـ"قيم ثقافية يجب الحفاظ عليها" ففي حين تواجه النساء ارتفاعًا في معدلات البطالة، يتم دفعهن نحو العمل غير الرسمي، الذي لا يوفر أي حماية قانونية أو اجتماعية، مما يزيد من تبعيتهن الاقتصادية. 

وتابعت منصور، في تصرحت لـ"جسور بوست"، إلى جانب الاستغلال الاقتصادي، يُعاد إنتاج التمييز عبر أدوات تكنولوجية تبدو في ظاهرها داعمة للمرأة، لكنها في الواقع تُكرّس تبعيتهاعلى سبيل المثال، يُلاحظ ازدياد عدد التطبيقات والمنتديات الإلكترونية التي تروّج لفكرة "المرأة الفاضلة" التي ترتبط قيمتها الاجتماعية بمدى تضحيتها وإخلاصها للأسرة، وهو خطاب يعزز من فكرة أن النجاح الشخصي للمرأة لا يمكن أن يكون مستقلًا عن دورها التقليدي. 

واستطردت، أما على صعيد القوانين، فبينما تبدو بعض التشريعات في اليمن تقدمية، إلا أن تطبيقها يعاني من تحديات هائلة، خصوصًا في ظل ضعف المؤسسات وانتشار العادات المجتمعية التي تحكم المرأة أكثر من القوانين الرسمية فعلى سبيل المثال، تُمنع النساء من التنقل داخل البلاد دون محرم في بعض المناطق، وهو قيد يفرضه المجتمع لا القانون، لكنه يُنفَّذ بصرامة تفوق أي تشريع. 

وأتمت، التحدي الحقيقي اليوم لا يكمن فقط في مواجهة القوانين الظالمة، بل في كشف الأساليب الحديثة التي يُعاد بها إنتاج السيطرة على المرأة في إطار يبدو أكثر قبولًا وحداثة لهذا، فإن مواجهة هذه الأشكال المستحدثة من التمييز تتطلب وعيًا جديدًا لا يكتفي برفض القوانين الظالمة، بل يتجاوز ذلك إلى تفكيك الخطابات الاجتماعية والتكنولوجية والإعلامية التي تُعيد تشكيل القمع بطرق خفية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية