البابا فرنسيس.. سيفتقدك مسيحيو العالم وسيفتقدك المسلمون
البابا فرنسيس.. سيفتقدك مسيحيو العالم وسيفتقدك المسلمون
توفي البابا فرنسيس، الثلاثاء، عن عمر ناهز 88 عاماً، بعد معاناة صحية طويلة بدأت بتدهور وضعه بسبب التهاب الشعب الهوائية، وأُدخل على إثرها المستشفى لأسابيع قبل أن يُعلن الفاتيكان وفاته رسمياً، لينتهي بذلك فصل من قيادة روحية استمرت 12 عاماً.
خلال هذه السنوات، تجاوز تأثيره الروحي حدود الكنيسة الكاثوليكية التي تضم أكثر من 1.4 مليار مؤمن حول العالم، حيث تبنّى نهجاً إنسانياً شاملاً تمثل في دعم السلام وحقوق الإنسان والكرامة البشرية ومناهضة الحروب.
وأُعلن عن اختيار البابا فرنسيس في 13 مارس 2013، بعد استقالة البابا بنديكت السادس عشر بدافع التقدم في السن، ليُشكل انتخابه تحوّلاً غير مسبوق في تقاليد الكنيسة، كونه أول بابا غير أوروبي منذ أكثر من 1300 عام، وأول بابا من أمريكا اللاتينية.
وظهر من شرفة ساحة القديس بطرس وهو يلوح للحشود بلغة قريبة ومتواضعة، عاكساً توجهاً جديداً في الفاتيكان نحو البساطة والانخراط في قضايا الناس.
جسّد محبة الفقراء
اختار البابا اسم "فرنسيس" تكريماً للقديس فرانسيس الأسيزي، محب الفقراء، معبراً عن توجهه بأن تكون الكنيسة "كنيسة الفقراء"، ورفض المظاهر الفخمة وفضّل الإقامة في بيت الضيافة بدلاً من القصر البابوي، كما انتقد النظام الاقتصادي العالمي ونعته بـ"المنحرف هيكلياً" لأنه يستغل الفقراء، ودعا دائماً إلى وضع العدالة الاجتماعية والرحمة في قلب السياسات الكنسية والاقتصادية.
انخرط البابا فرنسيس منذ بداية حبريته في عملية إصلاح شامل داخل الكنيسة الكاثوليكية، اتسمت بالجرأة والانفتاح، حيث أبدى مواقف واضحة من قضايا شائكة كالإجهاض، ورفض عقوبة الإعدام، وانتقد السجن مدى الحياة، كما تبنّى خطاباً تصالحياً حيال المثليين، في تحول أثار نقاشاً واسعاً داخل الكنيسة.
وجعل البابا من الدفاع عن المهاجرين واللاجئين محوراً أساسياً لرسالته، حيث اختار جزيرة لامبيدوزا كمكان لأول زيارة له خارج روما، في يوليو 2013، وهاجم سياسات الإغلاق الأوروبية والأمريكية، وصرح بأن "من يبني جداراً لمنع المهاجرين ليس مسيحياً".
وأدان عمليات الترحيل القسري، مؤكداً أنها تضر بكرامة الإنسان، وألقى إكليلاً من الزهور في البحر المتوسط تخليداً لضحايا الهجرة، وطالب العالم بالتعامل مع المهاجرين كأشخاص، لا كأرقام.
مناداة يومية بوقف نزيف الدم
أدان البابا فرنسيس بشدة الحروب والنزاعات، معتبراً أنها "انتحار للإنسانية".
دعا خلال العدوان الأخير على غزة إلى وقف إطلاق النار، وإغاثة المدنيين، متصلاً يومياً بكنيسة العائلة المقدسة، الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في القطاع.
ودعا أيضاً إلى تحقيق دولي في الحرب، ولم يتردد في التشكيك بما إذا كانت تصل إلى حد الإبادة، ما عرضه لهجوم دبلوماسي من إسرائيل.. وسبق له أن توقف في 2014 عند الجدار العازل في فلسطين، في مشهد رمزي قوي.
وظهر البابا في أحد أكثر المشاهد تأثيراً عندما انحنى وقبّل أقدام زعماء جنوب السودان، طالباً منهم وقف الحرب الأهلية، وخاطبهم قائلاً: "أنا أطلب منكم كأخ أن تبقوا في سلام"، موجهاً رسالة إلى العالم بأن السلام يبدأ من التواضع، وكرر المبدأ ذاته في أوكرانيا، حيث دعا إلى شجاعة التفاوض بدلاً من الاستمرار في الدمار.
رسّخ الحوار بين الأديان.. وعلاقة خاصة بالمسلمين
كان البابا فرنسيس فريداً في علاقته بالعالم الإسلامي ومختلفاً عن أيٍ من البابوات السابقين له حيث سعى بقوة إلى تعزيز التواصل والتقارب المسيحي- الإسلامي وتعاون بشكل وثيق مع شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب الذي نعاه بوصفه "أخاً له في الإنسانية" ومثل الاثنان نموذجاً خاصاً في علاقة القادة الدينيين.
ومع صعوده على رأس الفاتيكان دعا إلى تجنب التعميم غير الدقيق عند الحكم على المسلمين، مؤكدًا اقتناعه التام بسلمية الإسلام الحقيقي الذي يعارض كل أشكال العنف.
ووجّه رسالة خاصة للمسلمين والمسيحيين "بالنسبة لتربية الشباب المسلمين والمسيحيين، فعلينا أن نربي الأجيال الصاعدة على التفكير والتكلم باحترام عن الديانات الأخرى وأتباعها، والابتعاد عن كلَّ استخفاف أو إساءة لعقائدهم وممارساتهم".
ووقّع البابا خلال زيارته التاريخية لدولة الإمارات عام 2019 على "وثيقة الأخوة الإنسانية" مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، تعزيزاً لثقافة التسامح والتعايش، ورفضاً للتطرف والكراهية، وكانت تتويجاً للجهود المشتركة بين شيخ الأزهر والبابا، وتؤكد الوثيقة أن التعاليم الصحيحة للأديان تدعو إلى التمسك بقيم السلام وإعلاء قيم التعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك.
وبعد توقيعه الوثيقة اعتبر البابا دولة الإمارات العربية مثالاً يُحتذى في المنطقة من حيث التسامح واحترام الغير، وحرية ممارسة كل الأديان للمقيمين على أراضيها.
وحظيت الدول الإسلامية بنصيب كبير من زيارات البابا الخارجية، ففي عام 2017 زار مصر وشارك في مؤتمر الأزهر للتسامح، وتحدث عنها بوصفها "البلد الذي أثبت أن الدين لله والوطن للجميع".
وفي عام 2021 توجه إلى العراق في زيارة لقيت ترحيباً رسمياً وشعبياً كبيراً، لكنه تعرض لمحاولة اغتيال تم الكشف عنها في ما بعد، واستقبل مجلس حكماء المسلمين تلك الزيارة بالتأكيد على أنها "تأتي لتضمد جراح الشعب العراقي بعد سنوات طويلة من الحروب والدمار، وتمنح العراق والمنطقة الأمل في غد أفضل قائم على التسامح وقبول الآخر".
وقبل أشهر من رحيله، ومن إندونيسيا، أطلق البابا دعوة في أكبر مساجدها تدين العنف القائم على أساس ديني ووقع إعلاناً مشتركاً بعنوان "تعزيز الانسجام الديني من أجل الإنسانية" داعياً الزعماء الدينيين إلى العمل معاً لتعزيز الكرامة الإنسانية والحوار بين الأديان وحماية البيئة.
من هنا كانت البداية
وُلِد خورخي ماريو بيرجوليو في 17 ديسمبر 1936، لأب مهاجر إيطالي في حي فلوريس المتواضع بالعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، حيث أحب الموسيقى وكرة القدم، وكان مشجعاً لفريق سان لورينزو.
انضم إلى الرهبنة اليسوعية عام 1958، ورُسِّم كاهناً عام 1969، ثم أصبح رئيس أساقفة بوينس آيرس، وعُرف بتواضعه، فكان يستخدم وسائل النقل العامة ويطهو طعامه بنفسه.
اختار الرحيل بهدوء
أوصى البابا ألّا يُدفن في كاتدرائية القديس بطرس، بل في كنيسته المفضلة "سانتا ماريا ماجوري" بروما، مطالباً بجنازة بسيطة "بكل كرامة، ولكن مثل أي مسيحي".
وأكد البابا فرانسيس على أن دور البابا ليس "رجلاً قوياً من هذا العالم"، بل "تلميذاً وراعياً"، في تأكيد أخير على فلسفته الإنسانية.