الرخاء في عهد ترامب.. التعريفات الجمركية تستنزف دخول الفئات الأقل دخلاً

الرخاء في عهد ترامب.. التعريفات الجمركية تستنزف دخول الفئات الأقل دخلاً
ترامب والتعريفات الجمركية

في قلب أمريكا التي طالما تغنّت بحلم الوفرة، يترنح هذا الحلم تحت ثقل واقع اقتصادي مضطرب، القلق يتصاعد بصمت، يطغى على وجوه أنهكها الغلاء، ويقوّض يقين المواطن بقوة اقتصاد بلاده، فلم تعد الأسواق عامرة، ولا المعيشة ميسورة، فيما تُثقِل الرسوم الجمركية والديون كاهل الأسر، وتدفع أمريكا لتواجه انعكاسها في مرآة تعكس وجهاً مرهقاً، فقدَ اطمئنانه وتآكلت ملامحه بفعل السياسات الاقتصادية المتخبطة.

في هذا السياق المتوتر، أعلنت وكالة "ترانس يونيون" الأمريكية للتقارير الائتمانية، عن نتائج تقرير استند إلى استطلاع رأي شمل 3 آلاف شخص خلال مايو الماضي، مؤكدة أن الأمريكيين باتوا أكثر تشاؤماً حيال أوضاعهم المالية. 27% من المشاركين أعربوا عن تشاؤمهم تجاه أوضاعهم المالية خلال الأشهر الإثني عشر المقبلة، مقارنة بنسبة 21% في نهاية العام الماضي، في مؤشر لا يشي فقط بتزايد القلق، بل بتحوله إلى ظاهرة اجتماعية متجذرة، فالتقرير لم يكن محايدًا، بل ربط بشكل مباشر بين هذا التشاؤم وتراجع الثقة في الاقتصاد الأمريكي، في ظل ضبابية السياسات التجارية التي تقودها الحكومة، وعلى رأسها الرسوم الجمركية التي أخذت بالتصاعد خلال السنوات الأخيرة.

 الرسوم الجمركية

في قلب الواقع الأمريكي الراهن، تبدو الرسوم الجمركية هذه مقاومة جديدة للمستهلك، تتحوّل من أدوات اقتصادية ورهانات تجارية إلى أعباء تمتص قدرات الأسر اليومية، فوفقًا لتحليل "Budget Lab" في جامعة ييل -يونيو 2025- أدّى فرض جولة جديدة من التعريفات الجمركية إلى رفع متوسّط الأسعار بحدود 1.3%، أي ما يعادل تقليص دخل الأسرة الفعلي بنحو 1,700 إلى 2,000 دولار سنويًا، وهذا انخفاض ملموس في القوة الشرائية يعادل فجوة بين الراتب والنفقات لا يمكن تجاوزه بسهولة.

على أساس آخر، تصل نسبة الأمريكيين الذين يعتقدون أن الرسوم الجمركية تُضعف أوضاعهم المالية إلى 65%، منهم 41% أكدوا أن الأثر كان “سلبيًا بشكل كبير”، في حين يرى 54% أن هذه الرسوم تضر بالاقتصاد العام، ومع تأثر 43% بارتفاع أسعار السلع الغذائية و71% بتغير نمط التسوق -التحول نحو علامات تجارية أرخص أو شراء أقل- يتجلى كيف أدرك المستهلكون الفارق الصارخ.

معدل التضخم

على صعيد معدل التضخم، سجلت البيانات الرسمية من وزارة التجارة معدل تضخّم سنوي بلغ 3.3% عام 2024، رغم تهاونه مقارنة بـ6.8% في ذروة ما بعد الجائحة 2022، إلا أنه لا يزال يفوق هدف الاحتياطي الفيدرالي عند الـ2%، وتأتي الأرقام الرسمية للأجور موافقة جزئيًا للنهج المضاد: فقد ارتفع معدل الأجور الحقيقية -بعد خصم تأثير التضخّم- بنسبة 1.5% خلال 12 شهرًا حتى مايو 2025، في حين ارتفع الأجر الأسبوعي الإجمالي للقطاع الخاص إلى نحو 1,243 دولارًا في مايو 2025، ومدخول العاملين بالوظائف الكاملة كان 1,194 دولارًا في الربع الأول من العام.

لكن هذا المشهد قابل للتزييف: ارتفاع الأجور الحقيقي المتواضع لا يوازي الارتفاع المستمر في التضخّم، ما يعني أن المواطن، رغم حصوله على مبلغ أكبر، فإن هذه الزيادة لا تغطي فقدان القدرة الشرائية الحقيقي، إلى جانب ذلك، لا تزال الفوارق الطبقية واضحة: العاملون بالوظائف الإنتاجية والنظيرون بلا إشراف تلقّوا زيادة قدرها 1.7% من ديسمبر 2024 إلى مايو 2025، قابلة للتأويل في ضوء التضخّم الفعلي.

أما عن السكن والمواد الثقيلة فقد ارتفعت تكاليف المنازل الجديدة بمعدل 10,900 دولار إضافي بسبب رسوم التعريفات المفروضة على الأخشاب بمفردها، في حين انخفض بدء مشروعات البناء بنسبة 9.3% متوقّعًا حتى عام 2026. وهذا بدوره يرفع تكلفة القروض العقارية، ويزيد من كلفة حياة المواطن، ويثقل الاستثمار الأسري طويل الأمد.

وعلى نحو أكثر وضوحًا، رصدت بيانات "TransUnion" ارتفاع نسبة التشاؤم بين المستهلكين إلى 27% في مايو 2025، مقارنة بـ21% في الربع الأخير من 2024، مع تبنّي 23% من المستهلكين زيادة في مدخراتهم الطارئة، في سلوك حذر نابع من تحوّل في النظرة المستقبلية، هذا الحذر تجلّى عمليًا بتراجع ملموس في الإنفاق: فقد انخفضت مبيعات التجزئة في مايو 2025 بنسبة 0.9% -أسرعت أولًا بسبب الشراء المدفوع بخوف التعريفات ومن ثم جاء الركود- وسط هبوط مبيعات السيارات 3.5% وتقليص الإنفاق على المواد البناء 2.7% .

النمو الاقتصادي

وفي ما يتعلّق بنمو الناتج الاقتصادي الكلي، حذرت "Budget Lab" أن التعريفات لعام 2025 ستخفض الناتج المحلي الحقيقي بمقدار 0.6 نقطة مئوية خلال العام، أي أنها قد تقلّص الناتج الفعلي بمليارات الدولارات، وترفع نسبة البطالة بنحو 0.3%، ما يُسفر عن تراجع الوظائف بنحو 394,000 فرصة عمل، وتضيف أن الأثر يطول الفقراء بشكل أكبر، فكلفة الدخل للأسر الأدنى دخلًا تبلغ ثلاثة أضعاف الأثر على الأغنياء، أي أنها نموذج واضح لضريبة تصاعدية تمس الفئات الأقل قدرة أولًا.

في خضم هذا، تستمر مؤسسات مثل الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة (بين 4.25% و4.5%)، لحماية هدف التضخم، لكن هذه الزيادات تضعف القدرة على الاقتراض للأفراد والشركات، فتزيد من أعباء ديون بطاقات الائتمان والقروض، وتُعمّق أزمة السيولة الشخصية، والأخطر من ذلك كله هو اللجوء المتزايد إلى الاقتراض لتغطية فجوة العجز الاستهلاكي: مزيج من قروض بطاقات الائتمان، القروض الشخصية، وتقنيات "اشترِ الآن وادفع لاحقًا"، التي يستخدمها الآن نحو 28% من البالغين الأميركيين، في حين تجاوز إجمالي ديون بطاقات الائتمان 1.3 تريليون دولار في الربع الثاني من 2025، وهو رقم غير مسبوق. كما بلغت القروض الشخصية ما يزيد على 245 مليار دولار، بزيادة سنوية تُقدّر بـ14%. هذا التوسع السريع في الاعتماد على أدوات الدين يعكس يأسًا أكثر منه تخطيطًا، لدرجة أن جزءًا مهمًا من المستهلكين يرى أن لا تنفيذ فعليًا لتعويضات اقتصادية طويلة الأجل، وأن "الحلول" المقدّمة جزئية، موضعية، وروتينية، وقد تؤدي إلى انفجار دين منزلي لا قبل له، خاصة مع ارتفاع متوسط سعر الفائدة على بطاقات الائتمان إلى 22.8%، وهو الأعلى منذ عقدين.

المفارقة تتكرر حيث دفع المواطن ثمناً لحماية ماكينة التصنيع، في حين تُعوّض أرباح الشركات، التي حققت في بعض القطاعات نموًا تجاوز 9% خلال عام 2024، بأعباء مباشرة على المستهلك العادي، وكما حصل في ثلاثينيات "سموت–هاولي"، الذي أدى آنذاك إلى انخفاض التجارة الدولية بنسبة 66% وزيادة معدلات البطالة إلى أكثر من 24%، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه لكن بحذر هذه المرة، في أرضٍ لا تتحمّل رسم "ضريبة خامسة عشر" من ارتفاع الأسعار، حيث أظهر استطلاع أجراه "Pew Research" أن 61% من الأمريكيين يعدون الرسوم الجمركية تضرهم مباشرة أكثر مما تحميهم.

على الرغم من أن سوق العمل لا يزال متماسكًا -بمعدل بطالة عند 3.9% في مايو 2025- وبعض التقارير تشير إلى نمو الأجور الحقيقي بنسبة 1.5% فقط على أساس سنوي، فإن هذه الأرقام تُحلق بعيدًا عن الواقع اليومي، حيث تُلغى 34% من الرحلات المقررة للعطلات لأسباب مالية، وتؤجّل قرارات شراء المنزل وسط ارتفاع متوسط أسعار الفائدة العقارية إلى 7.1%، وتتراجع خطط الزواج أو الإنجاب في 22% من الأسر الشابة، بينما يضغط المواطن على نفسه لتوفير روتيني وضبط التكاليف التي أصبحت خانقة.

الحروب الخارجية تستنزف الداخل

رغم تسجيل الاقتصاد الأمريكي مؤشرات إيجابية في النمو وسوق العمل، فإن فجوة متزايدة بين هذه الأرقام والانطباع الشعبي العام تُلقي بظلال ثقيلة على المشهد الداخلي، وسط تضخّم العجز الفيدرالي وتكاليف السياسات الخارجية.

في هذا السياق، قال الدكتور إحسان الخطيب، عضو الحزب الجمهوري وأستاذ العلوم السياسية في جامعة "موراي ستيت" الأمريكية، إن "الاقتصاد الأمريكي يُظهر مقاومة قوية للضغوط الخارجية"، مشيرًا إلى تحسن نسبي في معدلات النمو والتوظيف، لكنه حذر في الوقت ذاته من أن "التحسن غير كافٍ لتغيير المزاج العام الذي تطغى عليه خيبة الأمل".

فجوة بين الواقع والأمل

يقرّ الخطيب بوجود فجوة ملموسة بين تحسن المؤشرات الاقتصادية الرسمية وواقع حياة كثير من المواطنين، قائلاً: "نسبة كبيرة من الأمريكيين غير راضين عن الأداء الاقتصادي للإدارة، ليس لأن الأرقام سيئة، بل لأن الوعود كانت أكبر من الواقع".

وأضاف أن التحديات المعيشية مستمرة، موضحًا أن دراسة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي عام 2022 كشفت أن 37% من الأمريكيين سيواجهون صعوبة في تغطية نفقات طارئة بقيمة 400 دولار فقط، ما يعكس هشاشة مالية مزمنة.

مؤشرات متضاربة وحذر في السياسة النقدية

وفي ما يتعلق بالسياسة النقدية، قال الخطيب إن مجلس الاحتياطي الفيدرالي اختار الإبقاء على سعر الفائدة دون تغيير مؤخرًا، بسبب "الإشارات الاقتصادية المختلطة"، مشيرًا إلى وجود حالة من عدم اليقين بشأن اتجاهات الاقتصاد على المدى القصير.

كما شدد على أن التأثير الكامل للسياسات التجارية، خصوصًا الرسوم الجمركية التي فرضتها الإدارة، لم يظهر بعد، لافتًا إلى أن التقديرات "ما زالت غير محسومة" بسبب عوامل جيوسياسية وسلاسل الإمداد وأسعار الطاقة.

الداعري: الحروب الخارجية تدفع الثمن داخليًا

من جانبه، حمّل المحلل الاقتصادي ماجد الداعري السياسات الخارجية الأمريكية مسؤولية جزء كبير من التوتر الاقتصادي الداخلي، معتبرًا أن "الانخراط المكلف في الحروب الخارجية -من أوكرانيا إلى اليمن إلى الدعم المفتوح لإسرائيل- تسبب في استنزاف ضخم للموارد الفيدرالية، دون عائد ملموس للمواطن الأمريكي".

وأضاف الداعري، في تصريحه لـ"جسور بوست": "وصل العجز المالي إلى أكثر من 32 تريليون دولار، وهو رقم غير مسبوق يعكس عمق الأزمة البنيوية التي يعيشها الاقتصاد الأمريكي".

ضغوط معيشية وضرائب غير مباشرة

واعتبر الداعري أن الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب -ورُفعت لاحقًا على بعض السلع الأساسية- أسهمت في زيادة تكاليف المعيشة، لا سيما على الطبقات العاملة والمتوسطة، التي تُعد الأكثر تأثرًا بالموجات التضخمية.

وقال: "الطبقات المنتجة في الاقتصاد الأمريكي أصبحت الحلقة الأضعف في المعادلة، دون برامج حقيقية تخفف عنهم آثار التضخم وغلاء الأسعار".

إعادة تأسيس اقتصادي لكن بثمن

ورغم الانتقادات، يرى الداعري أن إدارة ترامب تراهن على مكاسب بعيدة المدى من خلال تشجيع التصنيع المحلي وتقليل الاعتماد على الخارج، فإن هذه "الرهانات لا يمكن أن تنجح ما لم تُقرن بآليات تعويض آنية للمتضررين، وخطاب اقتصادي شفاف يشرح للمواطن الأميركي لماذا يُطلب منه كل هذه التضحيات".

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية