"واشنطن بوست": وكالات الاستقالة باليابان تنتصر للحق في بيئة عمل إنسانية
"واشنطن بوست": وكالات الاستقالة باليابان تنتصر للحق في بيئة عمل إنسانية
أجرى المدير التنفيذي شوتا شيميزو اتصالًا بقسم الموارد البشرية في إحدى شركات الرعاية التمريضية في طوكيو، ناقلًا رغبة عميلته في إنهاء عملها رسميًا دون حضور شخصي، طلب شيميزو تأكيد العنوان البريدي لإرسال زي العمل ومفتاح الخزانة، مؤكدًا أن العميلة لم تعد قادرة على التكيف مع طبيعة العمل.
ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، اليوم الأربعاء، قدم شيميزو هذه الخدمة ضمن مهامه في شركة "موموري"، وهي شركة متخصصة في تنفيذ الاستقالات نيابة عن الموظفين الذين يجدون صعوبة في مواجهة مديريهم.
تأسست الشركة في العاصمة اليابانية طوكيو، وتُقدم خدماتها تحت شعار "لا أستطيع تحمل الأمر بعد الآن"، مقابل رسوم تصل إلى 50 ألف ين (نحو 350 دولارًا أمريكيًا).
سجلت "موموري" نموًا ملحوظًا منذ انطلاقها عام 2022، تزامنًا مع التغيرات التي فرضتها جائحة كورونا على نمط العمل، وتحديها للمفاهيم التقليدية المرتبطة بالوظائف المستقرة وطويلة الأجل.
اتسم سوق العمل الياباني لعقود طويلة بثقافة التوظيف مدى الحياة، وساعات العمل الطويلة، وأجواء الالتزام الصارم بالعلاقات المهنية الهرمية، التحق الملايين من الموظفين بالقطاع الخاص عقب تخرجهم الجامعي، وبقوا فيه حتى التقاعد، في ظل منظومة كانت تكافئ الولاء أكثر من الأداء.
واجه هذا النموذج ضغوطًا بعد انهيار "فقاعة الاقتصاد" في التسعينيات، ورغم تراجع بعض ملامحه، ظلت ساعات العمل المفرطة والاجتماعات الاجتماعية الإجبارية قائمة، ما أدى إلى شعور عدد متزايد من الموظفين بعدم الرضا.
ولاحظ الخبراء توجهًا متسارعًا بين الشباب اليابانيين في العشرينيات والثلاثينيات من العمر نحو ترك وظائفهم، في ظاهرة تشمل أيضًا موظفين في منتصف حياتهم المهنية.
يُعد هذا تحولًا عميقًا في مجتمع طالما اعتبر تغيير الوظيفة بعد سن الخامسة والثلاثين أمرًا شبه مستحيل، بسبب محدودية الفرص في المناصب العليا.
الخروج من الوظيفة
اضطر عدد من الموظفين إلى اللجوء لخدمات الاستقالة بالوكالة هربًا من التنمر أو المضايقات، أو بعد تعرضهم للرفض عند محاولتهم تقديم استقالاتهم بأنفسهم، وفي حالات أخرى، يُفضل البعض تجنب المواجهة مع مديرين لا يتقبلون فكرة مغادرة الموظف.
صرّح كبير الباحثين في مركز أبحاث "إنديد ريكرُت بارتنرز" في طوكيو، كاورو تسودا، أن توفر خيارات التوظيف في السوق الحالي يمنح الموظفين حرية التنقل، ويُشجعهم على الاستقالة عند الشعور بعدم الرضا.
أضاف تسودا: "يُمثل هذا التحول خطوة حقيقية نحو سوق عمل أكثر ديناميكية، حيث بات الموظفون يتمتعون بخيارات واسعة غير مسبوقة".
وأوضح الموظف الشاب توي إيدا، البالغ من العمر 25 عامًا، أنه اضطر إلى ترك وظيفته السابقة بسبب تجاهل مديره لشكاواه بشأن ساعات العمل الطويلة، دفع إيدا لوكيل لينوب عنه في إنهاء عمله، ويعمل الآن في شركة "موموري" لمساعدة الآخرين على اتخاذ الخطوة نفسها.
وأضاف إيدا: "شعرتُ بارتياح عميق بعد استلام تأكيد الاستقالة.. لقد كنت بحاجة إلى دعم خارجي للقيام بهذه الخطوة".
الاستقالات بالوكالة محدودة
رغم النمو السريع لهذا النوع من الخدمات، لا تزال الاستقالات بالوكالة محدودة نسبيًا، فقد غيّر نحو 3.3 مليون موظف وظائفهم في عام 2024، من أصل 68 مليونًا، وفق بيانات حكومية.
وأكدت الأستاذة بجامعة ناغويا، كيكو إيشي، أن الثقافة اليابانية تُقدّس الانسجام وتُفضّل الجماعية على تعبير الفرد عن مشاعره، وأوضحت إيشي أن كثيرًا من الموظفين يُعجزهم التحدث عن معاناتهم، ما يجعل وكالات الاستقالة خيارًا مريحًا عندما يبلغ الضغط ذروته.
وفقًا لمسح أجرته شركة "طوكيو شوكو" للأبحاث، تلقت واحدة من كل عشر شركات يابانية استقالات عبر وكلاء بالوكالة في عام 2024، ورغم عدم وجود إحصاء دقيق، تُقدّر شركة "موموري" عدد عملائها الشهرية بحوالي 2500 حالة، مقارنة بـ 200 فقط عند انطلاقها.
صرّح رئيس شركة "موموري"، شينجي تانيموتو، أن أغلب العملاء تتراوح أعمارهم بين 20 و30 عامًا، مع وجود حالات لعملاء أكبر سنًا، بينهم شخص يبلغ من العمر 83 عامًا.
ردود فعل متفاوتة
كشف مدير خدمة الاستقالات في وكالة "أويتوما" بمحافظة آيتشي، تايشي كوسانو، أن بعض الشركات تُبدي ردود فعل عاطفية عند تلقيها استقالات بالوكالة، تظهر في البداية علامات ارتباك، تتبعها في أحيان كثيرة مشاعر غضب أو استياء بسبب غياب التواصل المباشر.
أشار كوسانو إلى أن الأمر أصبح أكثر تقبّلًا تدريجيًا، وأن ردود فعل مثل "أفهم الأمر" باتت شائعة، خاصة مع تزايد المعرفة بهذه الخدمة.
أوضح الباحث تسودا أن الشركات باتت بحاجة إلى إعادة النظر في طرق جذب الموظفين والاحتفاظ بهم، مع تكيفها مع الواقع الجديد الذي يفرض تحسين بيئة العمل، وتقديم تعويضات مرنة، لضمان رضا الموظفين.
تحولات شخصية وسوقية
قرّر الموظف كينتو سانو، البالغ من العمر 37 عامًا، تغيير مساره المهني بعد تجربة غير مرضية في شركة سفر كبرى، خاض سانو تجارب متنوعة، من بينها البستنة والعمل الحر، قبل أن يعود إلى قطاع السفر عبر شركة ناشئة منحته مرونة أكبر وفرصة للعمل بشغف.
وقال سانو: "أدركتُ أن الاستمتاع بالعمل داخل الشركة مع الاحتفاظ بمساحة خاصة لأداء أمور تُثير حماسي، هو الخيار الأقوى بالنسبة لي".
وفي السياق، غيّر الموظف كيسوكي أوتشي، البالغ من العمر 45 عامًا، نظرته تجاه التنقل الوظيفي، بعد أن شهد تحولات في سياسات شركته السابقة، ولاحظ زيادة في عدد أقرانه الذين اتخذوا خطوة المغادرة.
وقال أوتشي، الذي يعمل حاليًا في شركة خدمات مالية: "كنت أعتقد أن تغيير الوظيفة أمر غير وارد، لكنني أدركت لاحقًا أن مهاراتي تُتيح لي ذلك، وأنه ليس من الغريب أن أبدأ من جديد".
وأشارت المتحدثة باسم شركة "JAC" للتوظيف في طوكيو، يوكو كوداما، إلى أن تفجر أزمة التوظيف في التسعينيات أدى إلى فقدان جيل كامل من الموظفين الدائمين، مع وصول هؤلاء إلى الأربعينيات والخمسينيات من أعمارهم، تواجه الشركات نقصًا في الكفاءات الإدارية، وتُصبح أكثر استعدادًا لتوظيف من تجاوزوا سن الخامسة والثلاثين.
ومع تغير القيم، وارتفاع وعي الأفراد بحقوقهم، وتزايد مرونة سوق العمل، يتضح أن ثقافة التوظيف مدى الحياة في اليابان بدأت تفقد سطوتها، لتفسح المجال لمرحلة جديدة من الخيارات المهنية الشخصية المدفوعة بالرغبة في التوازن والكرامة داخل بيئة العمل.