كيف تحوّلت شمس الجنوب الأوروبي من نعمة سياحية إلى خطر يهدد الحق في السفر الآمن؟
كيف تحوّلت شمس الجنوب الأوروبي من نعمة سياحية إلى خطر يهدد الحق في السفر الآمن؟
في قلب أوروبا، حيث اعتاد السياح أن يتنقّلوا بين ضفاف الأنهار الباردة، ويستنشقوا نسمات جبال الألب، ويجلسوا على الأرصفة الحجرية في أمسيات معتدلة، بات المشهد يتبدّل. صيف 2025 ليس كغيره، ولا يبدو أنه سيكون الأخير في سلسلة الفصول التي خرجت عن طورها. حرارة تقفز فوق الأربعين، وأرض تتصدع تحت الشمس، ومناخ يعيد رسم خريطة السفر والاستجمام. ما كان استثناءً في سنواتٍ مضت، بات قاعدةً في روزنامة الصيف الأوروبي.
السياحة، باعتبارها إحدى أكبر القطاعات الاقتصادية عالميًا، تواجه في أوروبا نقطة انعطاف تاريخية بفعل تغيّر المناخ، ولم تعد درجات الحرارة المرتفعة مجرد مصدر إزعاج، بل أصبحت عاملاً يعيد تشكيل الأنماط الاقتصادية والسلوكية للمستهلكين والمستثمرين على حد سواء.
وإذا لم تبادر الحكومات والقطاع الخاص وفق خبراء إلى تطوير أنظمة تكيف ذكية وفعالة، فإن صورة أوروبا كـ"جنة صيفية" ستتحول تدريجيًا إلى ذكرى جغرافية في كتب التاريخ السياحي.
البيانات التي نشرتها منظمة الأرصاد الأوروبية (ECMWF) تشير إلى أن يونيو 2025 كان الأشد حرارة على الإطلاق منذ بدء تسجيل البيانات، حيث بلغت درجات الحرارة في إسبانيا 45.2 درجة مئوية، وفي جنوب فرنسا 44.8، ووصلت في إيطاليا إلى 46.1 درجة. هذه الأرقام لا تعني فقط تعرّقًا أو انزعاجًا حراريًا، بل تهدد حياة البشر والبنية التحتية والاقتصادات التي تدور حول "الموسم السياحي".
تداعيات اقتصادية
القطاع السياحي، الذي يرفد اقتصادات دول مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان وفرنسا بمليارات اليوروهات، بدأ يعاني، ففي إسبانيا، سجّلت وزارة السياحة انخفاضًا بنسبة 17% في الحجوزات الفندقية خلال يونيو مقارنةً بصيف 2022، فيما تراجع عدد الزوّار بنسبة 22% في بعض المناطق الجنوبية مثل الأندلس، وفق تقرير نشرته صحيفة "إلبايس" الإسبانية. والسبب؟ درجات حرارة خانقة لا تتيح للسياح الاستمتاع بالمعالم أو حتى التنقّل.
المفارقة أن ما كان يُعدّ حلمًا في الماضي -السفر إلى الجنوب الأوروبي- أصبح كابوسًا من الحرارة والتعرق والإرهاق وضربات الشمس. في روما، تم إخلاء عشرات السياح من مواقع أثرية بعد تعرّضهم لحالات إغماء، فيما خصّصت بلديات إيطالية "ملاجئ حرارية" في المكتبات والكنائس لتوفير أماكن باردة مؤقتة للزوّار، وقد سجلت العاصمة الإيطالية خلال الأسبوع الأخير من يونيو درجات حرارة تجاوزت 43.5 مئوية، وفق هيئة الأرصاد الجوية الإيطالية، وهو رقم لم يُسجّل منذ أربعة عقود.
ولا يقتصر الأثر على السياحة الصيفية التقليدية، بل يمتد إلى نمط السفر ككل. تقرير صادر عن مجلس السياحة الأوروبي (ETC) في يوليو 2025 أشار إلى تحوّل تدريجي في خيارات السيّاح الأوروبيين، حيث بدؤوا يتجهون نحو الوجهات الشمالية مثل السويد (بارتفاع 28% في عدد الزوار)، والنرويج (بزيادة بلغت 34%) واسكتلندا، أو يؤجلون رحلاتهم إلى الخريف والربيع. كما أشار التقرير إلى أن 42% من المسافرين الأوروبيين يعيدون النظر في توقيت سفرهم السنوي بسبب تغير المناخ، ما قد يعيد رسم تقويم الموسم السياحي بالكامل، ويضع صيف أوروبا في دائرة الاضطراب الموسمي المستمر.
هذا التحوّل المناخي القاسي لا يُلقي بظلاله فقط على حركة السائح، بل أيضًا على العاملين في القطاع، فنُدُر المياه والكهرباء زادت من كلفة التشغيل في الفنادق والمطاعم بنسبة 18% في المتوسط حسب بيانات اتحاد أصحاب المنشآت السياحية الأوروبية، واضطر بعضها إلى تقليص ساعات العمل أو إغلاق أبوابه في ذروة الموسم، كما حدث في مدينة إشبيلية التي شهدت إغلاق 14 مطعمًا بسبب تعذّر التكييف وتراجع الزبائن، وسط تسجيل المدينة درجة حرارة قياسية بلغت 46.3 مئوية يوم 26 يونيو.
أما شركات الطيران، فقد وجدت نفسها في معركة جديدة مع الطبيعة. موجات الحرّ أثّرت على عمل المطارات، حيث تسببت الحرارة الشديدة في تمدد مدارج الطائرات وتعطّل بعض الأجهزة الإلكترونية، ما أدى إلى تأخيرات وإلغاءات متكررة، كما حصل في مطار نابولي منتصف يونيو، حيث أُلغيت أكثر من 120 رحلة خلال يومين فقط. وفي مطار برشلونة، سُجّلت أعطال في أنظمة التبريد الأرضي وتوقف مؤقت لخدمة الشحن، وفق بيان رسمي صدر عن إدارة المطار في 28 يونيو.
تداعيات صحية
من الجانب الصحي، سجلت هيئة الصحة العامة الفرنسية أكثر من 1,170 حالة إغماء مرتبطة بالحرارة بين السياح خلال يونيو فقط، معظمهم في باريس ومارسيليا، بزيادة 24% عن صيف 2023. فيما أعلنت وزارة الصحة الإيطالية وفاة 78 شخصًا -نصفهم من الزائرين- بسبب مضاعفات موجات الحرّ، ما دفع منظمة الصحة العالمية لإصدار تحذيرات بخصوص السفر إلى المناطق الموبوءة بالحرارة، لا سيما لكبار السن ومرضى القلب.
الحرّ لم يرحم لا الحجر ولا البشر. المدن القديمة، ذات البنى الحجرية الثقيلة مثل فلورنسا وبرشلونة، تحوّلت إلى أفران عملاقة تمتصّ الحرارة نهارًا وتطلقها ليلًا، حيث سُجلت درجات حرارة داخلية في بعض الأحياء السكنية تجاوزت 38 مئوية في منتصف الليل، بحسب دراسة صادرة عن معهد المناخ في كتالونيا. حتى التربة لم تسلم؛ في اليونان، تعرّضت بعض المناطق لانهيارات أرضية طفيفة بسبب جفاف الأرض وتشققها، وهو ما عطّل الحركة السياحية وأجبر السلطات على إغلاق بعض المسارات الجبلية في جزر رودس وكريت.
وفي ظل هذا المشهد المتغير، بدأت الحكومات الأوروبية تدرك أن المسألة لم تعد ظرفًا عابرًا. فرنسا خصصت تمويلاً بقيمة 300 مليون يورو لتطوير "سياحة مناخية" تتكيف مع تغيرات الطقس، تشمل تطوير شواطئ مظللة ومسارات تهوية في المدن. كما أطلقت وزارة البيئة الفرنسية مشروع "باريس الباردة" لتحويل بعض الشوارع إلى ممرات مائية مبردة خلال الصيف. أما إيطاليا، فبدأت بتقديم حوافز مالية تصل إلى 25 ألف يورو للمنشآت السياحية التي تعتمد أنظمة تبريد مستدامة، في محاولة لحماية السائح والعامل والمدينة.
لكن هل تكفي هذه الحلول؟ الواقع أن تحدي المناخ أعمق من مجرد تكييف أو مظلة، وأننا أمام إعادة هيكلة شاملة لنمط الحياة والسفر فالسياحة الأوروبية كانت دائمًا ابنة الطقس الجميل، والآن وقد تمرّدت السماء، بدأ هذا القطاع يبحث عن هوية جديدة. فالسفر، الذي كان مرادفًا للهروب من القيود، بات الآن مشروطًا بتوقعات الطقس ونشرات الأرصاد، وبتكاليف إضافية غير مسبوقة في ميزانية الرحلة.
المشهد لا يخلو من بصيص أمل. بعض المناطق الشمالية التي كانت تعاني من عزلة سياحية باتت الآن قبلة جديدة، ففي النرويج، ارتفعت الحجوزات السياحية بنسبة 34% مقارنة بالعام الماضي، وفقًا لتقرير نشرته هيئة السياحة النرويجية، بينما أصبحت المدن مثل كوبنهاغن وهلسنكي مقاصد صيفية مرغوبة، مسجلة معدلات إشغال فندقي تخطت 87% خلال الأسبوع الأول من يوليو.
في المحصلة، صيف 2025 ليس مجرد رقم قياسي جديد في سلسلة سجلات المناخ المضطربة، بل هو جرس إنذار يقرع في أذن قطاعٍ اعتاد الازدهار مع الشمس. أوروبا اليوم لا تعيد فقط حسابات طقسها، بل تعيد تعريف السياحة ذاتها. السفر لم يعد طقسًا من الترف، بل معركة بين الجسد والجو، بين المتعة والمجازفة، وبين الرغبة في الاكتشاف والخشية من الاحتراق.
في مواجهة صيفٍ يزداد توهجًا عامًا بعد عام، تبدو أوروبا وكأنها تقف عند مفترق طرق: فإما أن تبتكر أنماطًا جديدة للسياحة تتوافق مع الأرض المشتعلة، أو تترك شواطئها ومدنها فارغة، تحرسها الشمس وحدها، كذكرى من زمن كان فيه الصيف وعدًا لا وعيدًا.
سلوك سياحي جديد يعيد تشكيل الموسم التقليدي
أكد الدكتور خليل عزيمة، الباحث المتخصص في الشأن الأوكراني والعلاقات العربية الأوروبية، أن موجات الحرّ الشديدة التي تضرب أوروبا صيف 2025 ليست طارئة، بل أصبحت واقعًا مناخيًا دائمًا يعيد صياغة حركة السياحة داخل القارة الأوروبية.
وقال في تصريحات لـ"جسور بوست" إن هذا التحوّل المناخي يفرض تحديات اقتصادية واجتماعية وثقافية متزايدة، ويعيد ترتيب الأولويات في قطاع اعتُبر لعقود ركيزة للاستقرار الأوروبي.
الجنوب الأوروبي يخسر... والشمال يربح
رصد عزيمة تراجعًا ملحوظًا في عدد الزوار إلى وجهات تقليدية مثل إسبانيا، اليونان، جنوب فرنسا، وإيطاليا، مقابل ارتفاع الإقبال على دول شمالية أكثر اعتدالًا مثل النرويج، السويد، سويسرا، وإيرلندا.
وأوضح أن السياح باتوا يتجنّبون ذروة الصيف، مفضلين السفر خلال أشهر أكثر لطفًا مثل مايو، يونيو، سبتمبر، وأكتوبر، ما دفع العديد من الدول لإعادة النظر في موسمها السياحي الأساسي.
نمط الاستهلاك السياحي يتغير
قال عزيمة إن الأنشطة الثقافية المكشوفة أصبحت أقل جذبًا في أوقات الذروة الحرارية، في حين ارتفع الإقبال على الأنشطة الليلية والأماكن المغلقة مثل المتاحف والمسارح والمراكز التجارية.
وأشار إلى أن هذا التحول يضغط على بنية الخدمات الأساسية، خصوصًا الكهرباء والماء، ما يزيد من التوتر بين السكان المحليين والسياح في بعض المدن الساحلية.
المستثمرون يعيدون الحسابات
حذّر عزيمة من تراجع الاستثمارات في البنية التحتية السياحية ببعض المناطق المتأثرة مناخيًا، مشيرًا إلى احتمال تجميد مشاريع أو حتى إغلاق منشآت سياحية.
وأضاف أن العائدات السياحية انخفضت بوضوح، ما يهدد بارتفاع معدلات البطالة الموسمية في المناطق التي تعتمد بشكل رئيس على السياحة كمصدر دخل.
لفت عزيمة إلى أن صور الإغماءات، وحرائق الغابات، وانقطاع الكهرباء، وإخلاء الفنادق التي تبثها وسائل الإعلام خلال موجات الحر، تخلق صورة سلبية تهز ثقة السائح، خاصة كبار السن والعائلات، وتُضعف من جاذبية جنوب القارة كوجهة آمنة ومريحة.
توصيات لتكيّف استراتيجي
دعا عزيمة إلى انتقال القطاع السياحي الأوروبي من وضعية رد الفعل إلى التكيّف طويل الأمد، من خلال: إعادة توزيع الموسم السياحي، وتطوير البنية التحتية للتبريد والظل، وتحسين الممرات العامة والمساحات الخضراء، وتشجيع السياحة الداخلية والريفية، إضافة إلى اعتماد أنماط سياحة مستدامة وصديقة للبيئة.
وشدد على أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل المخاطر المناخية، وتطوير تطبيقات ذكية لتوجيه السياح وتنبيههم، إلى جانب تدريب العاملين على التعامل مع الطوارئ المناخية.
أزمة عالمية تهدد بنية الاقتصاد والسلوك المجتمعي
من جانبه، عدّ الدكتور ياسين رواشدة، الأكاديمي ومدير مركز الدراسات الأوروبية العربية، أن التغير المناخي لم يعد ملفًا للنقاشات الدولية فقط، بل تحول إلى أزمة كونية مباشرة تؤثر في جميع مناحي الحياة، وعلى رأسها السياحة.
وأشار في حديثه لـ"جسور بوست" إلى أن الكارثة المناخية تجاوزت النماذج النظرية، وبدأت تظهر كأزمات فعلية على الأرض، كما حدث سابقًا في تسونامي آسيا، الذي غيّر نظرة العالم إلى كوارث الطبيعة.
لفت رواشدة إلى أن التعهد الدولي بتمويل مواجهة التغير المناخي عبر مئة مليار دولار سنويًا لم يُفعّل بالشكل الكافي، ما ترك الدول النامية عاجزة أمام موجات حرّ وجفاف وحرائق متكررة.
أوروبا تفقد ميزتها المناخية
قال رواشدة إن القارة الأوروبية تفقد تدريجيًا ميزتها التاريخية كمكان صيفي معتدل، إذ شهدت شواطئ جنوبها موجات حر قاسية طردت السياح، وأربكت أنظمة السياحة والبنية التحتية غير المهيأة لتغيرات بهذا الحجم.
وأوضح أن البيوت الأوروبية لم تكن مصممة بأنظمة تبريد فعالة، ما يستدعي تحولًا معماريًا وبنيويًا في تصميم المدن والمرافق السياحية.
جنوب المتوسط فرصة بديلة... بشروط
أشار إلى أن دول الجنوب، خصوصًا في شمال إفريقيا، قد تتحول إلى وجهات بديلة، بشرط الاستعداد بخطط بنية تحتية، وخدمات سياحية نظيفة، ومناخ ملائم.
وسأل: "إذا أصبحت درجات حرارة جنوب أوروبا تماثل مثيلاتها جنوب المتوسط، فلماذا لا تُنقل الوجهات إلى هناك؟"
دعوة لتحرك جماعي عالمي
أكد رواشدة أن المناخ لا يعترف بالحدود، وأن الحل لا يمكن أن يكون فرديًا. ودعا إلى: زيادة التشجير، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، واستخدام الطاقة المتجددة، وتغيير سلوكيات الأفراد والمجتمعات
وختم بالقول: "المناخ يفرض علينا إعادة تعريف مفهوم السياحة ذاته... لم يعد المهم عدد الغرف أو درجات الحرارة فقط، بل كيف نخدم الإنسان ونتناغم مع الأرض".