أزمة متكرّرة وندوب لا تندمل.. حرائق الغابات تلتهم الحياة في كندا

أزمة متكرّرة وندوب لا تندمل.. حرائق الغابات تلتهم الحياة في كندا
مواطنان من المجتمعات الأصلية في كندا يكافحان حرائق الغابات

لم يعد تغيّر المناخ مجرّد مصطلح علمي أو تحذير بيئي، بل تحوّل إلى أزمة كونية تطول حياة البشر في تفاصيلها اليومية، إذ تؤدي الانبعاثات المتزايدة وارتفاع درجات الحرارة العالمية إلى موجات جفاف مدمّرة، وأعاصير أشدّ عنفًا، وحرائق غابات أوسع نطاقًا وامتدادًا.

ولم تعد هذه الكوارث الطبيعية تقتصر على إتلاف الأشجار أو خسائر اقتصادية، بل تحولت إلى كارثة إنسانية تهدد أرواح الملايين، وتدفع مجتمعات بأكملها –لا سيما المجتمعات الريفية والشعوب الأصلية– إلى النزوح القسري وفقدان مصادر رزقهم وأراضيهم المقدسة، وتقدّر تقارير أممية أن ما يقارب 23.7 مليون شخص اضطروا للنزوح سنويًا في العقد الأخير بسبب كوارث مرتبطة بتغير المناخ، في موجة نزوح تعتبر الأخطر منذ عقود.

وفي كندا تحديدًا، يجتمع ارتفاع درجات الحرارة مع مواسم جفاف طويلة ليفجّرا حرائق غير مسبوقة، تُجبر الآلاف على ترك بيوتهم كل صيف، بينما تقف تلك المجتمعات –التي لطالما اعتبرت الأرض جزءًا من هويتها– في مواجهة نيران لا تهدد أخشاب الغابات وحدها، بل جذورها الإنسانية والتاريخية أيضًا.

حرائق كندا

مع اشتعال مئات الحرائق في مقاطعات كندية مثل ساسكاتشوان ومانيتوبا وبريتيش كولومبيا، يجد آلاف السكان أنفسهم فجأة أمام خيار وحيد هو الهروب وترك كل شيء وراءهم، لم يعد الأمر مجرد خطر موسمي تتعامل معه السلطات المحلية، بل أزمة إنسانية متفاقمة تمزق حياة المجتمعات الأصلية والريفية التي ترتبط أرواحها وأرزاقها بالغابات والأرض.

بحسب بيانات صادرة عن وكالة السلامة العامة في ساسكاتشوان، تم إجلاء نحو 1100 شخص مؤخرًا من مجتمعات نائية أغلبها شمال غرب ساسكاتون، مع استمرار اشتعال نحو 49 حريقًا نشطًا، وتشير تقارير وكالة الأنباء الكندية إلى أنّ قرية بوفال كانت الأكثر تضررًا، حيث اضطر 700 من سكانها للفرار، بينما يعيش آخرون على أهبة الاستعداد في مواجهة تهديدٍ دائم.

وتكشف الإحصاءات أن أكثر من نصف عمليات الإجلاء الطارئة في كندا خلال الأعوام الأخيرة طالت بلدات تسكنها أغلبية من السكان الأصليين (First Nations)، تلك المجتمعات، الممتدة جذورها في الأرض لآلاف السنين، تجد نفسها مضطرة كل عام إلى ترك قراها وأراضيها المقدسة التي تمثل جزءًا من هويتها الجماعية.

يقول ديفيد لويس، زعيم إحدى القبائل المتضررة في شمال مانيتوبا، في تصريح أوردته منظمة هيومن رايتس ووتش: "الإجلاء القسري لا يعني فقط مغادرة البيوت، بل مغادرة القبور والذكريات والأماكن التي تربطنا بأسلافنا"، وتوضح المنظمة الحقوقية أن النقص في خطط الطوارئ المناسبة المراعية للثقافة الأصلية يزيد من شعور هذه المجتمعات بالعزلة والتهميش.

الأرقام تحكي عن كارثة

تُظهر بيانات الحكومة الكندية أن عام 2023 وحده شهد اشتعال أكثر من 6,600 حريق غابات، أحرقت مساحة قياسية تجاوزت 15 مليون هكتار، وهو ما يعادل تقريبًا مساحة دولة عربية بحجم تونس، أما هذا العام، فقد بلغ عدد الحرائق النشطة في ذروته خلال يونيو أكثر من 600 حريق في مختلف المقاطعات، بينما تشير سلطات مانيتوبا إلى نزوح نحو 6,000 شخص، بعضهم للمرة الثانية منذ الربيع.

تؤكد المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في تقريرها الصادر في مايو الماضي أنّ تأثير تغيّر المناخ على الشعوب الأصلية في كندا أصبح وجوديًا، حيث تعرقل الحرائق سبل العيش التقليدية مثل الصيد وجمع النباتات الطبية وتحرم المجتمعات من مصادر رزقها.

ورغم الجهود التي تبذلها السلطات الكندية، فإنّ الصور القادمة من مناطق النزوح ترسم مشهدًا قاسيًا فكبار السن المنهكون على مقاعد الطوارئ، وأطفال ينامون في مراكز إيواء مؤقتة، وأسر فقدت منازلها وأبسط ممتلكاتها، ولا تنحصر المعاناة في الخسائر المادية فقط؛ بل تمتد إلى الصحة النفسية، إذ تزداد حالات القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، بحسب تقارير الصليب الأحمر الكندي.

كما تسببت الحرائق في تدمير شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات، ما ضاعف من عزلة المناطق الريفية، وأشار تقرير لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) إلى أنّ السكان لا يتمكنون أحيانًا حتى من الوصول إلى الملاجئ أو المستشفيات بسبب انقطاع الطرق والدخان الكثيف.

دعم دولي ومخاوف

تلقت كندا مساعدات من فرق إطفاء من الولايات المتحدة وأستراليا والمكسيك، فضلًا عن تعزيزات محلية من مقاطعات أخرى مثل كيبيك، ورغم ذلك، يقول خبراء البيئة إن الخطر لا يزال قائمًا مع توقعات استمرار موجات الحر والجفاف غير المسبوق.

تحذر هيئة الحدائق الكندية من أنّ ارتفاع درجات الحرارة في الأسابيع المقبلة قد يؤدي إلى اشتعال حرائق جديدة يصعب السيطرة عليها، خاصة في محيط المتنزهات الوطنية مثل منتزه الأمير ألبرت، الذي يُعد ملاذًا سياحيًا وطبيعيًا يمتد على مساحة 3,900 كيلومتر مربع.

ولدى المجتمعات الأصلية في كندا تاريخ طويل من الصراع مع الإجلاء القسري؛ فقد عانت منذ عقود من سياسات ترحيل وإعادة توطين قسري، استهدفت أحيانًا طمس ثقافتها وهويتها، واليوم، تأتي حرائق الغابات لتذكّر تلك المجتمعات بأوجاع الماضي، وتضيف نزوحًا جديدًا فوق نزوحٍ تاريخي.

نظرة حقوقية وتحذيرات أممية

بحسب تقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2024، ترى منظمات حقوقية أنّ هناك قصورًا في ضمان مشاركة السكان الأصليين في وضع خطط الطوارئ الخاصة بالحرائق، إلى جانب نقص التمويل الكافي للبنى التحتية المقاومة للكوارث.

ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في آخر تصريحاته إلى اعتبار أزمة المناخ في كندا وخسائرها الإنسانية جرس إنذار للعالم بضرورة اتخاذ تدابير عاجلة للحد من الانبعاثات وإعادة بناء المجتمعات المتضررة بطريقة مستدامة.

قد تنجح فرق الإطفاء في إخماد النيران، لكن الجرح الذي تتركه في حياة المجتمعات الأصلية والريفية يحتاج إلى أكثر من ماء لإطفائه؛ يحتاج إلى سياسات عادلة، صوت يُسمع، واعتراف بأن الأرض ليست مجرد موارد بل وطن وهوية وأمل.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية