فرانس السالمي.. فنانة فلسطينية أنهى القصف حلمها على شاطئ غزة

فرانس السالمي.. فنانة فلسطينية أنهى القصف حلمها على شاطئ غزة
فرانس السالمي

في ظهيرة حزينة من يونيو الماضي، كانت الفنانة الشابة فرانس- آمنة السالمي، تمسك بريشتها وتغمسها في لون أحمر قانٍ، ترسم ملامح فتاة كُفن جسدها بلون الدم، دون أن تدري أنها ترسم ملامح موتها، الذي كان يقترب بصمت.. لحظات قليلة فقط، كانت تفصل بين الحياة والموت، بين الإبداع والخراب، بين الألوان والركام.

حين دوى صوت الصاروخ الإسرائيلي وسقط على مقهى "الباقة" الساحلي، لم يتبقَ من فرانس سوى بقايا ريشة، وبعض ألوان متناثرة، ومشروع فني لم يكتمل، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، اليوم الاثنين.

وصفتها صديقتها المقربة، الفنانة آلاء الجعبري، بأنها "فتاة مختلفة"، لا ترى البحر فقط كمشهد طبيعي، بل كامتداد لأحلامها، كانت تجلس لساعات قبالة شاطئ غزة، تنقل نبض الأمواج إلى لوحاتها، ترسم بين صمت البحر وضجيج الحرب، في مساحة صغيرة من الأمل، اسمها غرفتها.

كانت تلك الغرفة مملكتها، ترسم على الجدران، وتغيّر الألوان كما تغيّر مزاجها، تخلق من المساحات الضيقة عوالم متخيلة. كانت تقول لآلاء: "حين أغلق باب غرفتي، أشعر أنني أخيرًا آمنة".. لكن "الآمنة" لم تكن آمنة في غزة.

موهبة متحررة من القيود

لم تكن فرانس من أولئك الفنانين المقيدين بأسلوب أو موضوع محدد. أحبت النحت، الجداريات، الرسوم الكرتونية، وحتى التركيبات المفاهيمية المعقدة. كانت تجد الجمال في كل شيء، وتخلق فنًا حتى من الأشياء التي يلقي بها الآخرون.

وتقول آلاء الجعبري: "كانت ترسم بالأكريليك الرخيص، لكنها تُخرج منه لوحات مذهلة، كانت تصنع التركيبات البصرية بين أشخاص أحياء وآخرين راحلين، بشكل يجعل من المستحيل تصديق أن الصورة ليست حقيقية".

عشقت فرانس التفاصيل، وحولت الجدران الصامتة إلى ذاكرة حيّة، تشهد على غزة التي تحاول الحياة رغم الحصار.

لا تهوى الأضواء

لم تكن فرانس تسعى للشهرة. تقول آلاء: "كنت أرى أعمالها منشورة دون اسم، أو موقعة بحرف صغير في زاوية خفية، لا تهتم بمتابعة أو إعجاب، كانت ترسم لأن الرسم هو طريقتها في البقاء".

ومع الوقت، وبعد إلحاح من أصدقائها، بدأت تنشر بعضًا من أعمالها على مواقع التواصل. لكنها كانت تحب أن تظل خلف الكواليس، تراقب ردود الفعل بصمت، وتعود إلى عزلتها، التي كانت تشبهها أكثر من العالم الافتراضي.

نبوءة الرحيل

كان وداعها الأخير صامتًا.. رحل أحد أصدقائهم الفنانين، فتجمّع الأحبة في العزاء.. وهناك، جلست فرانس، دون دموع، دون أن تتحدث. لم تصرخ كعادتها، لم تعبر عن الحزن، فقط كانت تنظر بعيدًا، كأنها تتهيأ للغياب.

وقالت آلاء: "كنا نشعر بالخوف من ذلك الهدوء. لم تكن تبكي، بل كانت كقطعة جليد، جامدة، وصامتة. وكأنها عرفت أنها الراحلة التالية".

ولم يكن موت فرانس وحدها في الغارة، فقد قتل معها أيضًا الصحفي إسماعيل أبو حطب، وكانا يعملان معًا على مشروع فني تخيلي مشترك، لم يفصحا عن فكرته الكاملة، لكنه كان ثمرة لقاء بين الصورة والكلمة، بين الألم والخيال.

بعض الملامح من هذا المشروع ظهرت في منشوراتهما الأخيرة، لكنه -مثل صاحبيه- مات قبل أن يُولد.

بين آمنة وفرانس

ولدت باسم آمنة، تيمّنًا بجدتها، لكن عمها أصر على مناداتها بـ "فرانس"، تيمنًا بفرانسواز كاستيمان، الناشطة الفرنسية التي قُتلت في عمل فدائي عام 1984، "وكأنها وُلدت لتحمل هذا الإرث"، تقول آلاء.

وماتت آمنةـ فرانس، وهي ترسم نهاية فتاة شهيدة، على شاطئ البحر نفسه…

تتساءل آلاء، وهي تنظر إلى الجدران الفارغة التي كانت تضج بحياة فرانس: "كيف يمكنني أن أعود إلى تلك الأماكن دونها؟ كيف أعيش في عالمٍ غاب عنه جمالها، وتوقف فيه ريشتها عن النبض؟".

غابت فرانس، لكن بقي أثرها في العيون التي تأملت جدارياتها، وفي الأرواح التي استنشقت الفن من أنفاسها، وفي بحر غزة الذي سيظل يحتفظ بصورتها، جالسة على الرمل، ترسم لوحة لا تكتمل.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية