تعليق حق اللجوء في اليونان.. انحراف يقوّض حقوق الإنسان ويعرّض الأرواح للخطر

تعليق حق اللجوء في اليونان.. انحراف يقوّض حقوق الإنسان ويعرّض الأرواح للخطر
قارب هجرة غير شرعية

 

في خطوة صادمة للحقوقيين والإنسانيين على حدّ سواء، علّقت اليونان مؤخرًا حق طالبي اللجوء القادمين بحرًا من شمال إفريقيا في تقديم طلبات لجوء على أراضيها، مُخالِفة بذلك التزاماتها بموجب القانون الدولي وميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي، ويأتي هذا القرار، الذي صوّت عليه البرلمان اليوناني في 11 يوليو الجاري ويستمر لثلاثة أشهر، في سياق تشديد سياسات الهجرة الأوروبية، ويثير موجة واسعة من القلق من تداعيات إنسانية جسيمة.

حجب الأمل وعودة إلى المجهول

وفق القرار الجديد، سيُعاد المهاجرون القادمون من ليبيا إلى بلدانهم الأصلية دون تسجيل طلبات لجوئهم، مما يلغي فعليًا حقهم القانوني في طلب الحماية الدولية، وبررت السلطات اليونانية الإجراء بالزيادة الأخيرة في تدفق القوارب إلى جزيرتي كريت وغافدوس، لكن بين هؤلاء الفارين كثيرون من مناطق نزاع كالسودان، حيث تهدّدهم المخاطر حال عودتهم.

يتعارض هذا القرار مع المبدأ القانوني الدولي المعروف بـ"عدم الإعادة القسرية"، الذي يحظر بشكل صارم إعادة أي شخص إلى بلد قد يتعرض فيه للتعذيب أو الاضطهاد، وتشير مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين إلى أن هذه السياسات لا تضر فقط بحقوق الأفراد، بل تزعزع أيضًا الثقة في منظومة اللجوء الأوروبية كلها.

بين الجغرافيا والسياسة

اليونان، بحكم موقعها الجغرافي، تعد من أبرز نقاط العبور إلى أوروبا، منذ عام 2015، ومع تدفق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين وغيرهم، واجهت البلاد ضغوطًا شديدة على منظومة الاستقبال والهجرة لديها. في مارس 2020، أقدمت اليونان أيضًا على تعليق قبول طلبات اللجوء لمدة شهر، أعقبها توثيق تقارير حقوقية واسعة النطاق لانتهاكات بحق طالبي اللجوء، شملت العنف والطرد الجماعي وحتى حالات غرق في البحر.

لكن بدلاً من تطوير سياسات تحمي الحقوق وتؤمّن إدارة إنسانية للهجرة، يبدو أن السلطات اليونانية تتجه مجددًا نحو سياسة الردع الأمني، ففي أواخر يونيو الماضي، نشرت البحرية اليونانية سفنًا قبالة السواحل الليبية لوقف قوارب المهاجرين قبل وصولها.

تواطؤ محتمل مع الانتهاكات في ليبيا

يزيد من خطورة القرار إعلان رئيس الوزراء اليوناني عن رغبته في التعاون مع السلطات الليبية لمنع المهاجرين من مغادرة شواطئهم، بحسب تقارير أممية حديثة، يتعرض المهاجرون العائدون إلى ليبيا لانتهاكات ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، منها: الاحتجاز التعسفي، والتعذيب، والعنف الجنسي، في تقرير صدر هذا العام عن بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة بشأن ليبيا، وُثّقت انتهاكات منهجية بحق اللاجئين والمهاجرين العائدين.

ويحذّر مراقبون من أن التعاون مع السلطات الليبية في هذا السياق قد يجعل اليونان متواطئة في عمليات إعادة قسرية تنتهك القانون الدولي.

صمت أوروبي.. وتساؤلات حول فرونتكس

قرار اليونان أثار ردود فعل غاضبة من مؤسسات حقوقية بارزة؛ فقد دانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومفوضية مجلس أوروبا لحقوق الإنسان هذا الإجراء، وعدَّتاه انتهاكًا صريحًا للحق في اللجوء. لكن بالمقابل، ظلّت المفوضية الأوروبية صامتة بشكل لافت حتى الآن، ما يثير القلق من تساهل بروكسل إزاء تجاوزات بعض الدول الأعضاء.

كما تُسلَّط الأضواء على دور وكالة فرونتكس الأوروبية المكلفة بمراقبة الحدود، إذ سبق لها أن دعمت اليونان في 2020 رغم انتهاكها الواضح لقوانين الاتحاد الأوروبي، ويعتبر محللون أن رد فرونتكس هذه المرة سيكون اختبارًا حاسمًا لمصداقيتها والتزامها بحقوق الإنسان.

أرقام تعكس مأساة متجددة

بحسب إحصاءات المنظمة الدولية للهجرة، لقي أكثر من 1100 شخص حتفهم في البحر المتوسط منذ بداية عام 2025 حتى الآن، بينهم نساء وأطفال، وتشير تقديرات مفوضية اللاجئين إلى أن أكثر من 13 ألف مهاجر وصلوا إلى اليونان منذ مطلع العام، غالبيتهم عبر البحر، وهو ما يمثل زيادة بنحو 17% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

هذه الأرقام لا تروي وحدها قصة الخطر، بل تسلط الضوء على واقع أن آلاف الأشخاص يهربون من صراعات مسلحة أو ظروف معيشية لا تطاق، ليجدوا أنفسهم أمام سياسات إغلاق وتشديد.

جذور سياسة الردع

يؤكد خبراء الهجرة أن اليونان ليست وحدها في هذا التوجّه، بل هي جزء من نهج أوسع في أوروبا يسعى للحد من وصول اللاجئين عبر البحر، حتى لو كان الثمن هو حياة هؤلاء الأشخاص، وتكشف تقارير حقوقية عن ممارسات صدّ قوارب اللاجئين، واستخدام وسائل ردع قسرية، وحتى تدمير محركات القوارب لوقفها في عرض البحر.

لكن الانتقادات تشير إلى أن هذه السياسات لا تمنع الناس من المحاولة، بل تدفعهم إلى طرق تهريب أكثر خطورة، وتزيد أرباح شبكات الاتجار بالبشر.

مسؤولية جماعية وحاجة ملحّة للإصلاح

يرى نشطاء حقوقيون أن هذه الأزمة تعكس فشلًا أوروبيًا أوسع في وضع سياسة لجوء متسقة تحمي حقوق الإنسان، فمنذ سنوات، يتعثر ميثاق الهجرة واللجوء الجديد للاتحاد الأوروبي وسط خلافات بين الدول الأعضاء بشأن تقاسم المسؤوليات.

ويقترح هؤلاء بدائل أكثر إنسانية، مثل توسيع طرق الهجرة القانونية، ودعم دول العبور لتحسين ظروف الاستقبال، والأهم: معالجة جذور النزاعات والفقر التي تدفع الناس إلى الهجرة.

بين القانون والضمير

في نهاية المطاف، لا يُختَصر جوهر أزمة الهجرة في الأرقام أو السياسات فحسب، بل في مصائر بشرية حقيقية، فكل قرار بمنع شخص من طلب اللجوء قد يعني عودته إلى خطر الاعتقال أو القتل أو الاستغلال.

كما تذكّرنا هذه الأزمة بأن القيم التي تأسس عليها الاتحاد الأوروبي، مثل احترام الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، ليست شعارات تُرفع وقت السلم فقط، بل اختبار حقيقي وقت الأزمات.

وبينما يتأرجح العالم بين موجات الخوف وسياسات الإقصاء، تظل المبادئ الإنسانية -الحق في اللجوء، الحماية من الخطر، والكرامة الإنسانية- بوصلة لا غنى عنها، وفي غيابها، لا تخسر فقط أرواحاً في البحر، بل تخسر أوروبا نفسها جزءًا من روحها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية