فرنسا تواجه المخدرات.. هل تنجح إجراءات حظر التجول في حماية القاصرين؟

فرنسا تواجه المخدرات.. هل تنجح إجراءات حظر التجول في حماية القاصرين؟
إجراءات أمنية فرنسية لحماية القصر

مع تزايد أعمال العنف المرتبطة بتجارة المخدرات، لجأت مدن فرنسية عدة إلى خيار غير معتاد ممثلاً في فرض حظر تجول ليلي على القاصرين، في محاولة لحمايتهم من التورط في شبكات الاتجار ووقايتهم من أن يكونوا ضحايا أو أدوات بيد العصابات.

أحدث هذه المدن هي نيم بجنوب فرنسا، التي عاشت خلال الأشهر الماضية مشاهد صادمة تمثلت في إطلاق نار في وضح النهار، جثث محترقة في أطراف المدينة، وحالة خوف تجتاح الأحياء الشعبية التي أصبحت ساحة صراع مفتوح بين شبكات المخدرات.

رئيس بلدية نيم، جان-بول فورنييه، عبّر صراحة عن حالة الاستياء قائلًا: الوضع لم يعد يُحتمل، بينما شدد نائبه ريشار شيفين على أن الحظر يستهدف القاصرين الذين يُستدرجون بسهولة من العصابات للعمل كمراقبين أو وسطاء، أحيانًا مقابل مبالغ زهيدة، وفق شبكة "يوونيوز".

قاصرون في قلب الخطر

تُظهر تقارير حديثة صادرة عن المجلس الوطني لحماية الطفولة في فرنسا أن استغلال القاصرين من قبل شبكات المخدرات لم يعد استثناءً، بل تحول إلى ظاهرة مقلقة، فقد ارتفع عدد القاصرين الموقوفين بتهم متعلقة بالاتجار أو ترويج المخدرات بنسبة 18% في عام 2024 مقارنة مع عام 2022.

وتؤكد تقارير لمنظمات مثل اليونيسيف وهيومن رايتس ووتش أن الأطفال في الأحياء المهمشة غالبًا ما يجدون أنفسهم بين خيارين صعبين إما القبول بالعمل مع العصابات لتأمين مورد مادي، أو مواجهة العنف والحرمان.

رغم نوايا السلطات الحسنة، يرى خبراء أن حظر التجول لا يعالج جذور المشكلة، بل قد يؤدي إلى مزيد من عزلة هؤلاء الشباب، خاصة في غياب برامج متكاملة للدعم النفسي والاجتماعي.

تدابير أمنية ونتائج محدودة

مدينة بيزييه كانت من أوائل المدن التي لجأت لهذا الإجراء عام 2023، حيث فرضت حظر تجول على من هم دون 13 عامًا بين الساعة 23:00 و06:00، ثم توسع لاحقًا ليشمل من هم دون 15 عامًا.

رئيس بلدية بيزييه روبير مينار دافع عن القرار قائلًا: "لا يوجد طفل في العاشرة يتجول في الشارع عند الثانية صباحًا إلّا ويفعل شيئًا خاطئًا".

لكن، وبعد أكثر من عام، ما زالت المدينة تشهد أعمال عنف بين الشبان الملثمين وقوات الشرطة، مثل الهجوم الأخير بالألعاب النارية الذي استدرج فيه شبان ملثمون الشرطة لداخل الأحياء الشعبية، الأمر ذاته في ليموج، حيث اعترف رئيس البلدية بأن نتائج الحظر غير مرضية، مع استمرار العنف وتورط القاصرين فيه.

عنف متزايد وأرقام صادمة

بحسب بيانات وزارة الداخلية الفرنسية، شهد عام 2024 مقتل 110 أشخاص وإصابة أكثر من 300 آخرين في حوادث مرتبطة بتجارة المخدرات.

وفي مدينة مارسيليا –التي تُعرف تاريخيًا بأنها بؤرة العنف المتعلق بالمخدرات– بلغ عدد جرائم القتل المرتبطة بالعصابات في 2023 نحو 47 جريمة قتل، معظم ضحاياها ومنفذيها شباب دون سن الخامسة والعشرين.

ما يثير القلق أكثر هو انتقال هذا العنف من مارسيليا إلى مدن أخرى مثل نيم وبيزييه وتولوز، مع اعتماد متزايد للعصابات على القاصرين كأداة أساسية في نشاطها.

وردًا على تصاعد الأزمة، أعلنت الحكومة الفرنسية عن حزمة من الإجراءات، أبرزها: إنشاء سجنين شديدَي الحراسة مخصصَين لتجار المخدرات الخطيرين، وتأسيس فرع متخصص في النيابة العامة لملاحقة الجرائم المتعلقة بالعصابات، وتوسيع صلاحيات المحققين ومنح حماية خاصة للمخبرين، ونقل أكثر 17 تاجر مخدرات خطورة إلى سجن فاندان-لو-فييل شمال فرنسا.

وزير الداخلية جيرالد دارمانان شدد على أن الهدف هو تجفيف منابع العصابات، فيما دعا وزير العدل برونو ريتايو إلى مواجهة «اقتصاد المخدرات» الذي يزدهر في الأحياء المهمشة.

أصوات المجتمع

في الأحياء التي يشملها الحظر، يعيش الأهالي بين خوف على أبنائهم وشك في جدوى هذه الإجراءات.

تقول والدة لطفلين في نيم: "أخشى عليهم من الشارع.. لكن لا أريد أيضًا أن يعيشوا في خوف من الشرطة أو الشعور بأنهم مجرمون فقط بسبب سنّهم".

في المقابل، يرى بعض المراهقين أن الحظر يعاقب الجميع بسبب أفعال القلة، وأن العصابات قادرة على الالتفاف حوله بسهولة، باستخدام أطفال أصغر سنًا لا يشملهم القرار.

وتؤكد منظمات مثل اليونيسيف والمرصد الوطني لحقوق الطفل أن حماية القاصرين لا تُبنى فقط بالإجراءات الأمنية، بل تحتاج إلى: استثمار أكبر في التعليم وبرامج الدمج، ودعم الأسر الفقيرة لتقليل هشاشة الأطفال، وتوفير أنشطة ثقافية ورياضية بديلة تغني الأطفال عن الشوارع، وتدخل مبكر لرصد الأطفال المهددين بالاستغلال.

في تقييمها الأخير، حذّرت الأمم المتحدة من أن الإجراءات العقابية وحدها قد تفاقم التمييز ضد الأطفال من الأحياء الفقيرة بدلًا من حمايتهم.

دوامة العنف لم تبدأ اليوم

يعود تاريخ حروب العصابات المرتبطة بالمخدرات في فرنسا إلى تسعينيات القرن الماضي، خصوصًا في مارسيليا التي اشتهرت بجماعاتها المنظمة.

حظر التجول للقاصرين طُبّق للمرة الأولى مطلع الألفية في بعض ضواحي باريس خلال موجة شغب شهيرة عام 2005.

تقدّر قيمة تجارة المخدرات في فرنسا بنحو 3.5 مليار يورو سنويًا، ما يجعلها أكبر سوق في أوروبا بعد إسبانيا.

يبقى السؤال الأكبر: هل تنجح فرنسا في حماية قاصريها فعلاً؟.. الواقع أن التجربة تكشف محدودية الحلول الأمنية إذا لم تُستكمل بإصلاحات اجتماعية شاملة، تعالج جذور التهميش والفقر الذي تستغله العصابات ببراعة.

ما بين سطور الأرقام والقرارات، يظل مئات الأطفال في الأحياء المهمشة في مرمى الخطر، بانتظار حل يحمي طفولتهم دون أن يسلبهم حريتهم.

يذكر أن تجارة المخدرات في فرنسا تمثل ثاني أكبر اقتصاد غير شرعي بعد التهرب الضريبي، وتشير تقديرات رسمية إلى أن نحو 30% من القاصرين الموقوفين في قضايا المخدرات يعيشون في أحياء مصنفة محرومة اجتماعيًا.

تقارير متكررة للأمم المتحدة واليونيسيف شددت على أهمية الدمج التعليمي والثقافي كوسيلة مستدامة لحماية الأطفال من دوامة العنف.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية