درجات الحرارة ترتفع والأسعار تشتعل.. كيف يُهدد تغير المناخ حياة الملايين؟

درجات الحرارة ترتفع والأسعار تشتعل.. كيف يُهدد تغير المناخ حياة الملايين؟
ارتفاع أسعار المواد الغذائية

في مطابخ العالم، حيث تعج الأفران والمتاجر بشتى أنواع الطعام، ثمة حرب صامتة تُشنّ على موائدنا، إنها حرب المناخ، التي لا تُطلق فيها القذائف ولا تُسفك الدماء بالمعنى التقليدي، بل تُرفع فيها الأسعار، وتتلاشى فيها سلال الخير، وتُدفع فيها ملايين الأسر إلى حافة الجوع، لم تعد أزمة المناخ مجرد تهديد بيئي بعيد، بل أصبحت واقعاً قاسياً يضرب قوت يومنا، مُحوّلاً الطعام، الذي هو حق أساسي لكل إنسان، إلى سلعة فاخرة لا يقدر عليها الجميع.

تتجلى هذه الأزمة بوضوح في تقارير جديدة ترسم صورة قاتمة للمستقبل، حيث يمكن أن يؤدي تغير المناخ إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل كبير، ويدفع بشرائح واسعة من المجتمع إلى الفقر، فما كان يُعدّ تهديداً مستقبلياً أصبح اليوم "تضخماً مناخياً" ملموساً، يؤثر فينا جميعاً، لكنه يضرب الأسر الأقل دخلاً بقسوة أكبر.

إنذار مبكر لأزمة عالمية

في بريطانيا، إحدى أغنى دول العالم، تتكشف ملامح الأزمة بشكل مقلق، حيث دق تقرير حديث صادر عن معهد "أوتونومي" لأبحاث المناخ ناقوس الخطر، محذراً من أن التغيرات المناخية قد ترفع أسعار المواد الغذائية بأكثر من الثلث بحلول عام 2050، وقد تدفع هذه الزيادات ما يقرب من مليون شخص إضافي إلى دائرة الفقر في المملكة المتحدة وحدها، إذا لم تتدخل الحكومة بشكل عاجل.

هذا التهديد ليس نظرياً، فبريطانيا، مثلها مثل بقية دول العالم، تعتمد بشكل كبير على سلاسل توريد عالمية معقدة، وبما أن ما يقرب من نصف غذائها مستورد، فإنها عرضة لأي صدمات مناخية تضرب كبار منتجي الأغذية في العالم، فموجات الحر في إسبانيا، والجفاف في فرنسا، أو سوء الأحوال الجوية في البرازيل وفيتنام، كلها عوامل قد ترفع أسعار المنتجات الأساسية كالفواكه والخضراوات والقهوة والشوكولاتة في المتاجر البريطانية.

الأرقام الرسمية تؤكد ذلك، حيث ارتفع معدل التضخم في المملكة المتحدة بأكثر من المتوقع في يونيو، بسبب زيادة أسعار الوقود والمواد الغذائية، فقد حذرت كبرى شركات التجزئة من أن الطقس الحار والجاف قلّل من محاصيل الفاكهة والخضراوات محلياً، في حين ارتفعت أسعار الشوكولاتة بسبب ضعف المحاصيل في غرب إفريقيا، والقهوة بسبب سوء الطقس في البرازيل وفيتنام.

تداعيات الطقس المتطرف 

إن العلاقة بين تغير المناخ وأسعار المواد الغذائية ليست مجرد صدفة، إنها شبكة معقدة من التأثيرات المترابطة يمكن إيجازها فيما يلي:

تأثير مباشر على الزراعة: موجات الحر الشديدة، الجفاف، والفيضانات المدمرة، كلها ظواهر متطرفة تُدمر المحاصيل الزراعية وتُقلل من الإنتاجية. فمثلاً أدت العواصف والفيضانات إلى خفض إنتاج الخضراوات في المملكة المتحدة بنسبة 12% في عام 2023.

تعطيل سلاسل التوريد: الكوارث الطبيعية قد تُدمر البنية التحتية للنقل، وتعوق حركة البضائع، وتزيد من تكاليف الشحن، وهذا يؤدي إلى نقص في المعروض وارتفاع في الأسعار.

تأثيرات عالمية: التغيرات المناخية لا تحترم الحدود، فما يحدث في البرازيل يؤثر في أسعار القهوة في لندن، وما يحدث في غرب إفريقيا يرفع سعر الشوكولاتة في أوروبا، وهذا الترابط العالمي يجعل من أزمة المناخ مشكلة إنسانية مشتركة.

ويشير تقرير "أوتونومي" إلى أن موجات الحر في بريطانيا وحدها قد تُكلف الأسرة المتوسطة ما بين 917 و1247 جنيهاً إسترلينياً سنوياً بحلول عام 2050، هذا الرقم يُمثل عبئاً هائلاً على ميزانية الأسر، خاصةً الأسر ذات الدخل المنخفض التي تنفق نسبة أكبر من دخلها على الغذاء.

العدالة المناخية في الميزان

أزمة "التضخم المناخي" تُثير تساؤلات جوهرية حول العدالة المناخية، فمن يتحمل العبء الأكبر؟ تقرير "أوتونومي" يُجيب بوضوح أن "العائلة البريطانية ذات الدخل المنخفض ستتأثر بشكل غير متناسب"، هذا لأنها تنفق حصة أكبر من ميزانيتها على السلع الأساسية كالخبز والأرز واللحوم.

ومن جانبها، تشير منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الأممية، مثل برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، منذ سنوات إلى أن أزمة المناخ ليست قضية بيئية فقط، بل هي قضية حقوق إنسان، إنها تُهدد الحق في الغذاء، والحق في الحياة، والحق في التنمية.

أغلب الدول النامية، التي لا تُسهم بشكل كبير في الانبعاثات الكربونية، هي الأكثر تضرراً من آثار تغير المناخ، سواء كان ذلك من خلال الجفاف الذي يُدمر الزراعة أو الفيضانات التي تُجرف المحاصيل، وهذا يُضعف قدرتها على تحقيق الأمن الغذائي، ويُزيد من اعتمادها على المساعدات الخارجية، في المقابل، فإن الدول الصناعية، التي تُعدّ المسؤولة الرئيسية عن الانبعاثات، هي الأكثر قدرة على التكيف مع هذه التغيرات، مما يُخلق فجوة عميقة من عدم المساواة.

حلول مُقترحة

مع تفاقم الأزمة، يزداد الضغط على الحكومات لاتخاذ إجراءات عاجلة، فتقرير "أوتونومي" لا يكتفي بالتحذير، بل يُقدم مجموعة من المقترحات التي يمكن أن تُخفف من وطأة الأزمة:

توفير "مطاعم عامة" يمكن أن تُقدم وجبات بأسعار معقولة أو مجانية للفئات الأكثر ضعفاً، مما يُخفف من تأثير تقلبات أسعار الغذاء، وفرض "ضوابط على الأسعار" يمكن أن تُستخدم في حالات الطوارئ للحد من الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الأساسية، وكذلك إنشاء "مخزونات احتياطية" من خلال توفير مخزون وطني من السلع الغذائية الأساسية لضمان توافرها أثناء اضطرابات سلاسل التوريد.

وتؤكد المنظمات الحقوقية أن أزمة ارتفاع أسعار الغذاء بسبب تغير المناخ ليست مجرد مشكلة اقتصادية، بل هي مأساة إنسانية تلوح في الأفق، إنها تُهدد بتقويض عقود من التقدم في مكافحة الفقر والجوع، وتضع ملايين الأسر على حافة الهاوية.

وترى أن الأمر يتطلب إرادة سياسية قوية، وتعاوناً دولياً لمواجهة هذه الأزمة من جذورها، سواء من خلال خفض الانبعاثات الكربونية أو من خلال بناء أنظمة غذائية أكثر مرونة واستدامة، لافتة إلى أن ما يحدث في بريطانيا وغيرها اليوم يُعدّ إنذاراً مبكراً للعالم أجمع. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية