تحولات تمنح الأمل.. نقاط التحول الإيجابية تفتح مساراً جديداً في معركة المناخ

تحولات تمنح الأمل.. نقاط التحول الإيجابية تفتح مساراً جديداً في معركة المناخ
الطاقة النظيفة - أرشيف

في عالمٍ يزداد سخونة، حيث يواصل البشر حرق كميات قياسية من الوقود الأحفوري، وتتصاعد موجات الحر والحرائق والعواصف، يبدو أن أي حديث عن "الأمل" في ملف المناخ قد يكون ترفاً أو حتى سذاجة، فالمشهد الحالي كما تصفه "فايننشيال تايمز" قاتم.. تراجع التزامات الشركات، تفكيك السياسات البيئية بوتيرة متسارعة، وابتعاد العالم عن روح اتفاقية باريس 2015 التي بدت ذات يوم نقطة إجماع دولي نادرة.

لكن وسط هذا التشاؤم، تظهر أفكار ووقائع تدفعنا لإعادة النظر في قدرتنا على التغيير، لا من منطلق إنكار المخاطر، بل من منطلق فهم ديناميات "التحولات الكبرى" التي يمكن أن تعيد تشكيل الأنظمة البيئية والاقتصادية نحو الاستدامة، حيث يلتقي العلم بالدبلوماسية، ويتقاطع العمل المناخي مع الحق في الحياة، والصحة، والبيئة الآمنة.

نقاط التحول الإيجابية

عرفت الأدبيات العلمية مفهوم "نقاط التحول" كونها عتبات حرجة، يؤدي تجاوزها إلى تغييرات بيئية كارثية ولا رجعة فيها: ذوبان الصفائح الجليدية، موت غابات الأمازون، أو ذوبان التربة الصقيعية التي تطلق مزيداً من الغازات الدفيئة، هذه النقاط السلبية هي تحذيرات حمراء تذكر بأن استقرار نظام دعم الحياة للبشرية على المحك.

لكن كما تشير دراسة نشرت في دورية "علوم الاستدامة" ونقلتها "يورونيوز" فإن الصورة ليست أحادية، فهناك أيضاً ما يُعرف بـ"نقاط التحول الإيجابية"، وهي لحظات فارقة يمكن فيها لتغيير صغير في السلوك أو التكنولوجيا أو السياسات أن يطلق سلسلة من التغييرات المستدامة التي تعزز العمل المناخي.

ويرى البروفيسور تيم لينتون من جامعة إكستر، وأحد أبرز الباحثين في هذا المجال، أن فهم كيفية حدوث التحولات الاجتماعية والتكنولوجية في الماضي -مثل إلغاء العبودية أو منح المرأة حق التصويت- يمكن أن يساعدنا على إشعال تحولات بيئية مماثلة اليوم.

ويلخص جوهر الفكرة في أن مقاومة القوى المهيمنة قد تنكسر أمام إصرار مجموعات صغيرة من الفاعلين، إذا ما استطاعوا تحريك الرأي العام وبناء زخم لا يمكن تجاهله.

التحولات التكنولوجية سلاح بيئي

ووفقاً لتحليل مجلة "بوبولار ميكانيكس" للدراسة ذاتها، فإن التحولات السابقة لم تكن حكراً على السياسة والقيم، بل لعبت التكنولوجيا دوراً حاسماً فيها، مثال على ذلك السيارات، ويوضح الصورة: في بداية القرن العشرين كانت الشوارع تهيمن عليها العربات التي تجرها الخيول، لكن في غضون عقد ونصف انقلب المشهد بسبب السيارات، تكرار هذا النمط في مجال الطاقة النظيفة ممكن، خاصة مع الانخفاض الحاد في تكلفة الألواح الشمسية، وتوربينات الرياح، والبطاريات.

وتورد "فايننشيال تايمز" أمثلة معاصرة: تحديد حد أدنى لسعر الكربون في المملكة المتحدة سرّع من الانتقال من الفحم إلى الغاز، إصلاحات الطاقة في أوروغواي عززت حصتها من الطاقة المتجددة، واستثمار الملياردير الأسترالي أندرو فورست ملايين الدولارات في خفض الكربون في الصناعات الثقيلة.

كما أن قصة النرويج مع السيارات الكهربائية تكاد تكون درساً في التحول الاجتماعي المدفوع بالنشاط المدني: من عصيان مدني قاده المغني مورتن هاركيت لتجنب رسوم الطرق والمواقف، إلى إعفاءات واسعة للسيارات الكهربائية، وصولاً إلى أن تشكل اليوم قرابة 90% من المبيعات.

هذه التغييرات ليست ترفاً بيئياً، بل هي استحقاق حقوقي: قطاع النقل البري مسؤول عن نحو 12% من الانبعاثات العالمية، والتحول فيه يعني حماية صحة البشر وحقهم في بيئة نظيفة.

العلم أداة للسياسات الفعالة

إحدى الإضافات التي قدمتها دراسة وفقاً لـ"بوبولار ميكانيكس" هي محاولة وضع منهجية لقياس مدى قربنا من هذه النقاط الإيجابية، هذا القياس ليس رفاهية أكاديمية، بل أداة سياسية لتوجيه الاستثمارات والقرارات نحو اللحظات التي يمكن أن تضاعف أثر الجهود.

مثال ذلك الطاقة المتجددة، التي تجاوزت بالفعل -وفق تقارير الأمم المتحدة- نقطة تحول تجعلها أرخص وأكثر انتشاراً من الوقود الأحفوري في أكثر من 90% من الحالات الجديدة، أو قطاع السيارات الكهربائية، الذي تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن تصل حصته إلى 50% من المبيعات العالمية بحلول 2030.

هناك أيضاً تحولات اجتماعية محتملة مثل التراجع الكبير في استهلاك اللحوم، الذي يمكن أن يخفض انبعاثات الميثان ويحسن الأمن الغذائي، هذه كلها نقاط التقاء بين العلم وحقوق الإنسان، إذ إن أثرها يمتد إلى الحق في الصحة، والغذاء، والمياه، والعيش في بيئة آمنة.

الدبلوماسية المناخية

يكشف الكتاب الذي تركه الدبلوماسي البريطاني الراحل بيت بيتس، دبلوماسي المناخ، الجانب الإنساني والسياسي من مفاوضات المناخ، من مقاومة بعض الحكومات للاعتراف بالعلوم الأساسية لتغير المناخ، إلى الصمت الدبلوماسي على تعهدات غير كافية من أكبر الملوثين، كانت عملية التفاوض معركة مستمرة.

يوضح بيتس، الذي شارك في صياغة اتفاق باريس، كيف أن مجموعة صغيرة من الدول التقدمية استطاعت، عبر بناء الثقة والعمل المشترك، أن تدفع الآخرين إلى الالتزام بخفض الانبعاثات، ورغم الفشل المتكرر لبعض الدول الغنية في الوفاء بوعودها، فإن النتيجة النهائية كانت إرساء إطار دولي أجبر الحكومات والشركات على التحرك.

ما يجمع بين الأطروحات الثلاثة -في فايننشيال تايمز، يورونيوز، وبوبولار ميكانيكس- هو رفض الاستسلام للشلل المناخي، نعم، نحن متأخرون عن المسار المطلوب لتحقيق هدف باريس للحد من الاحترار بأقل من درجتين مئويتين، كما يقول لينتون، لكننا أيضاً نشهد تحولات جارية يمكن البناء عليها وتسريعها.

والتحدي أصبح مزدوجاً.. حماية ما تبقى من استقرار مناخي، وضمان أن الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر يتم بطريقة عادلة لا تترك المجتمعات الفقيرة خلف الركب، وهذا يتطلب سياسات تعترف بالحق في بيئة سليمة كونها جزءاً من منظومة حقوق الإنسان، وتستثمر في التغيير ليس كونه خياراً سياسياً، بل واجب قانوني وأخلاقي.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية