تخفيض المساعدات الأمريكية للحياة البرية.. ضربة للتنوع البيولوجي والأمن العالمي
تخفيض المساعدات الأمريكية للحياة البرية.. ضربة للتنوع البيولوجي والأمن العالمي
في مشهد يختلط فيه فقدان التنوع البيولوجي بتزايد نفوذ العصابات الإجرامية، يبدو أن القرارات الأخيرة لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بتقليص أو تجميد التمويل المخصص لبرامج الحفاظ على الحياة البرية، لم تؤثر فقط على حماية الأنواع المهددة بالانقراض، بل أوجدت فراغًا استغلته شبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود، للاتجار غير المشروع بالحيوانات البرية وتجارة المخدرات وتهريب البشر والأسلحة، ما يجعل القضية مسألة حقوقية وأمنية في آن واحد.
وبحسب تقرير نشرته "فاينانشال تايمز"، تُعدّ تجارة الحياة البرية غير المشروعة نشاطًا ضخمًا تبلغ قيمته 23 مليار دولار سنويًا، وتديرها أطراف متنوعة من العصابات الصينية والكارتلات المكسيكية إلى الصيادين المحليين.
هذه العصابات، وفق خبراء الحفاظ على البيئة، استفادت من إلغاء البرامج الممولة من الولايات المتحدة لمكافحة الاتجار بالحياة البرية وحماية الأنواع المهددة.
تقول نائبة رئيس السياسة الدولية في جمعية الحفاظ على الحياة البرية (WCS)، سوزان ليبرمان، إن المتاجرين "يستمتعون" بإلغاء هذه البرامج، ويعتقدون أنه "لن يقبض عليهم أحد"، ما يشجعهم على التوسع.
برامج أوقفت الجريمة المنظمة
قبل التخفيضات، أنفقت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) ما لا يقل عن 375 مليون دولار سنويًا على جهود مكافحة الصيد الجائر والاتجار بالبشر، إلى جانب تمويل إضافي من مكتب شؤون المخدرات وإنفاذ القانون الدولي وهيئة الأسماك والحياة البرية الأمريكية، لعبت هذه البرامج، كما يوضح الخبراء، دورًا غير مباشر في الحد من تمدد العصابات الدولية، من خلال دعم إنفاذ القانون، ومراقبة الحدود، والتواصل المجتمعي.
وفقا لـ"فاينانشال تايمز"، يأتي الطلب الأكبر على منتجات الحياة البرية من الصين وفيتنام، حيث تُعتبر أجزاء الحيوانات مثل قرون وحيد القرن وأسنان النمر وقشور البنغول رموزًا للمكانة الاجتماعية أو عناصر للطب التقليدي.
ويشير المدير التنفيذي لمنظمة "إيرث ليج إنترناشونال"، أندريا كروستا، إلى أن المساعدات الأمريكية كانت "الحاجز الوحيد" أمام انتشار العصابات في دول كثيرة، مضيفًا أن التحقيقات في الاتجار بالحياة البرية كشفت في حالات عديدة صلات مباشرة بكارتلات المخدرات مثل كارتل سينالوا.
صرح مصدر بيئي مطّلع للصحيفة البريطانية، بأن واشنطن كانت توظف برامج حماية الحياة البرية كجزء من استراتيجية أوسع لمواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة، وفي دول هشة مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى، لعبت هذه المساعدات دورًا في دعم الاستقرار، وهو ما حذرت ليبرمان من فقدانه مع استمرار التخفيضات، معتبرة أن الأمر سيضر "بالأمن والحوكمة على الصعيد العالمي".
تهديد مباشر للحياة البرية
أكدت صحيفة "الغارديان" أن الفيلة ووحيد القرن أصبحا في خطر أكبر من الصيد الجائر بسبب تجميد منح الحفاظ الدولية التي تديرها هيئة الأسماك والحياة البرية الأمريكية، والتي كانت قيمتها تصل إلى عشرات الملايين من الدولارات، هذه الأموال كانت أساسية لدوريات مكافحة الصيد الجائر وجهود الحد من الصراع بين البشر والحيوانات، وحماية أنواع أخرى مثل سلاحف المياه العذبة والفراشات الملكية.
وقالت سارة أولمان من مركز التنوع البيولوجي إن قرار إدارة ترامب "محبط ومفجع وغير قانوني"، مشيرة إلى أن وقف التمويل ينتهك قانون الأنواع المهددة بالانقراض الأمريكي.
وأضافت أن عدم الامتثال لأمر قضائي بإلغاء التجميد يعكس إصرار الإدارة على المضي في سياسة التخفيضات رغم العواقب البيئية والحقوقية.
قصص نجاح مهددة بالانهيار
تستعرض "الغارديان" أيضًا قصة حديقة غورونغوسا الوطنية في موزمبيق، التي تحولت من منطقة مدمرة بالحرب الأهلية إلى نموذج عالمي في استعادة الحياة البرية، بفضل شراكة مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية على مدار عقدين.
اليوم، تواجه هذه الحديقة، ومعها مئات المشاريع المشابهة، خطر فقدان التمويل الأمريكي، ما قد يؤدي إلى زيادة الاتجار بالحيوانات والصيد الجائر.
وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، قدمت الولايات المتحدة بين 2015 و2022 ما يقارب 12.1% من إجمالي تمويل التنوع البيولوجي العالمي، بمتوسط 740 مليون دولار سنويًا، منها 350 مليونًا من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في 2023 وحده، هذا التمويل دعم مبادرات لحماية الغوريلا والفيلة والنمور، ومكافحة قطع الأشجار غير القانوني وتعدين الذهب، ومساعدة مجتمعات السكان الأصليين على تأمين حقوق ملكية الأراضي.
اضطرت المنظمات غير الحكومية، بحسب "الغارديان"، لتقليص دوريات الحراس وأعمال الترميم، ما أدى إلى فقدان وظائف وتراجع الحماية للأنواع المهددة، ويخشى الخبراء من أن هذا التراجع سيؤدي إلى زيادة الصيد الجائر وتعدي البشر على المحميات الوطنية، مهددين مستقبل أنواع مثل الليمور في مدغشقر وإنسان الغاب في جنوب شرق آسيا.
جريمة تتكامل عبر الحدود
من جانب آخر، تقدم "واشنطن بوست" تفاصيل ميدانية من سورينام، حيث كشفت عمليات سرية نفذتها منظمة "إيرث ليج إنترناشونال" بالتعاون مع وزارة الأمن الداخلي الأمريكية، عن شبكة معقدة تربط تجار اليغور في أمريكا الجنوبية بعصابات صينية وأمريكية لاتينية، تنشط أيضًا في تهريب المخدرات والبشر.
تصف الصحيفة هذه التجارة بأنها "الجانب الضعيف" للجريمة المنظمة، لأن المهربين لا يواجهون نفس الرقابة عند تهريب أجزاء الحيوانات مقارنة بالمخدرات أو الأسلحة، لكن التحقيقات بيّنت أن هذه التجارة توفر مدخلًا لاختراق شبكات أوسع، تشمل تهريب المهاجرين من الصين إلى الولايات المتحدة مقابل مبالغ تصل إلى 55 ألف دولار للشخص الواحد.
بحسب وزارة الأمن الداخلي الأمريكية، تُصنف تجارة الحيوانات البرية، مع تجارة الأخشاب غير القانونية، كرابع أكبر مصدر للإيرادات غير المشروعة عالميًا، بعد المخدرات وتهريب البشر والسلع المقلدة.
وثّق تقرير الصندوق الدولي لرعاية الحيوان بين 2017 و2022 نحو 1945 حالة صيد جائر أو اتجار غير قانوني في 18 دولة ناطقة بالإسبانية، شملت 188 جاكوارًا.
ومن جانبها، فقدت منظمة إنقاذ وحماية الشمبانزي في ليبيريا 3 ملايين دولار كانت مخصصة لتوسيع محمية طبيعية، فيما يهدد توقف التمويل جهود إعادة توطين وحيد القرن في بعض الدول الإفريقية.
أكد تيد رايلي، من إسواتيني، أن الحفاظ على الطبيعة "مشروع باهظ التكلفة" وأن نقص الموارد سيقلص من إمكانات مراقبة الحدود وحماية الحياة البرية.
تكشف هذه التقارير أن تخفيضات التمويل لا تعني فقط فقدان التنوع البيولوجي، بل تعني أيضًا تهديد حقوق الشعوب والمجتمعات التي تعتمد على البيئة السليمة كمصدر رزق وحماية، وزيادة مخاطر الجريمة المنظمة التي تقوض سيادة القانون والأمن العالمي، وأن فقدان هذه البرامج لا يُفرّغ جهود الحفاظ على البيئة من مضمونها فحسب، بل يفتح الباب أمام انتهاكات أوسع تطول حقوق الإنسان والأمن العام عبر القارات.