بين إنقاذ الأرواح وقيود الهجرة.. رجال إطفاء مهاجرون يواجهون خطر الترحيل
بين إنقاذ الأرواح وقيود الهجرة.. رجال إطفاء مهاجرون يواجهون خطر الترحيل
في مشهد لم يألفه المخضرمون في مكافحة حرائق الغابات، تحولت مهمة إنقاذ إلى مسرح لمداهمة أمنية، فخلال إخماد حريق "بير غالتش" الذي اجتاح نحو 9000 فدان من الغابات غرب ولاية واشنطن، اقتحم مسؤولون فيدراليون موقع الحريق بسيارات الدفع الرباعي، وشرعوا في التحقق من هويات رجال الإطفاء.
كانت المروحيات لا تزال تحلق فوق رؤوسهم ترش المياه على النيران، بينما اقتيد 44 عاملًا إلى خارج الموقع، وانتهى الأمر باعتقال اثنين منهم بدعوى وجودهما في البلاد بشكل غير قانوني.
صدم المشهد رجال إطفاء غابات مخضرمين، قالوا لصحيفة "واشنطن بوست"، اليوم الأحد، إنهم لا يتذكرون واقعة مماثلة من قبل، ووصف أحدهم الأمر بأنه "تشتيت خطير في لحظة تستوجب التركيز على الحريق لا على أوراق الهوية".
اعتبر الرئيس السابق لدائرة الغابات الأمريكية، ديل بوسورث، الخطوة "خطرًا إضافيًا يهدد سلامة الجميع"، فيما ذهب مفوض الأراضي في الولاية، ديف أبثغروف، إلى وصفها بـ"الفظة وغير الإنسانية".
الجانب الإنساني
يتكشف وراء هذه الاعتقالات قصة إنسانية تكشف هشاشة سياسات الهجرة الأمريكية، أحد رجلي الإطفاء المعتقلين، كما نشرت “إندبندنت”، عاش في ولاية أوريغون منذ أن كان في الرابعة من عمره، أي ما يقارب عقدين من الزمن، الرجل وعائلته كانوا ضحايا جريمة فيدرالية، وتعاونوا مع المحققين، ما خوّلهم للحصول على "تأشيرة U" المخصصة لضحايا الجرائم الذين يساعدون السلطات.
وبالفعل صدّق مكتب المدعي العام في ولاية أوريغون على طلب العائلة عام 2017، وتقدّم الرجل لاحقًا بطلب رسمي لدى دائرة خدمات الهجرة عام 2018، لكن طلبه ظل معلقًا بلا حسم منذ ست سنوات.
اعتبر محاموه في "مختبر قانون الابتكار"، منظمة حقوقية مقرها بورتلاند، أن اعتقاله "غير قانوني" وينتهك سياسة وزارة الأمن الداخلي نفسها، التي تحظر اعتقال أشخاص يتلقون أو تقدموا بطلبات لمزايا قائمة على كونهم ضحايا.
والأسوأ، أن الرجل –وفق بيان محاميه– لم يُسمح له منذ اعتقاله بالتواصل مع عائلته أو محاميه، وهو ما وصفه محاميه رودريغو فرنانديز أورتيغا بأنه "انتهاك صريح للحق في الإجراءات القانونية الواجبة".
هذه القصة الفردية تكشف عن مفارقة قاسية: بينما يخاطر هؤلاء العمال بأرواحهم لإنقاذ المجتمعات من ألسنة اللهب، يصبحون هم أنفسهم ضحايا لسياسات إنفاذ الهجرة.
جدل سياسي
لم تبقَ القضية في حدود الساحة الإنسانية أو المهنية، بل سرعان ما اتخذت بعدًا سياسيًا حادًا، حيث طالب الحاكم الديمقراطي لولاية واشنطن، بوب فيرغسون، في تصريحات نقلتها "نيويورك تايمز" بتفسير رسمي من السلطات الفيدرالية، وعبّر عن "قلقه الشديد" من استهداف رجال الإطفاء بدلًا من دعمهم.
وانتقد السيناتور الديمقراطي عن ولاية أوريغون، رون وايدن، بدوره إدارة ترامب، قائلاً إن "آخر ما تحتاج إليه طواقم الإطفاء هو القلق من انتهاك حقوقها بدلًا من التركيز على إنقاذ الأرواح".
نأتي الاعتقالات في سياق حملة أشمل للرئيس ترامب لتعزيز إنفاذ قوانين الهجرة، رُصدت لها ميزانية ضخمة بلغت 170 مليار دولار هذا العام وحده، كسرت في هذه الواقعة أعرافًا فدرالية سابقة كانت تمنع مداهمة مواقع الاستجابة للطوارئ، سواء في الأعاصير أو الفيضانات أو الحرائق.
وعلى العكس، كانت وزارة الأمن الداخلي في عهد الرئيس جو بايدن قد أكدت عام 2021 أنها لن تنفذ قوانين الهجرة في مواقع الإغاثة إلا في "ظروف ملحة للغاية".
بذلك، تتحول حرائق الغابات –التي تزداد شراسة بفعل تغير المناخ– إلى ساحة جديدة لتجاذبات سياسية حول الهجرة وحقوق العمال.
بين حماية الأرواح وتشديد الحدود
في جوهر هذا الجدل، يقف سؤال حقوقي أساسي: كيف يمكن التوفيق بين الحق في الحياة والأمان من الكوارث الطبيعية، وبين سياسات إنفاذ الهجرة الصارمة؟
ترى المنظمات الحقوقية أن ما حدث يمثل تهديدًا مزدوجًا: تهديد مباشر لحقوق المعتقلين في الإجراءات القانونية العادلة، خصوصًا أن أحدهم ضحية جريمة ويملك حقًا مشروعًا في الحصول على إقامة قانونية، و تهديد غير مباشر لحق المجتمعات في الحماية من الكوارث، عبر تقليص عدد العاملين في مكافحة الحرائق وتشتيت جهود الطواقم.
والواقع أن الولايات المتحدة تعتمد بشكل متزايد على عمالة المهاجرين –بينهم كثيرون غير موثقين– في أعمال الإطفاء المتعاقدة، خصوصًا مع تراجع أعداد الطواقم الفيدرالية بفعل ضعف الأجور والإرهاق.
وبحسب خبراء الغابات الذين تحدثوا لصحيفة "واشنطن بوست"، فإن غياب هؤلاء العمال سيجعل من الصعب السيطرة على مواسم الحرائق المتفاقمة.
والأكثر من ذلك، فإن هذه الاعتقالات قد تكون مقدمة –كما يخشى البعض– لحملة أوسع تستهدف طواقم الإطفاء المتعاقدة في الغرب الأمريكي كله، في وقت يتزامن مع اشتعال عدة حرائق كبرى متزامنة في المنطقة.
مرآة لأزمة أعمق
يبقى المشهد الذي تناقلته وسائل الإعلام الأمريكية صادمًا.. رجال إطفاء بملابسهم الملطخة بالدخان يُقتادون من موقع الحريق بينما النيران ما تزال مشتعلة، بالنسبة للكثيرين، هذه ليست مجرد حادثة عابرة، بل مرآة لأزمة أعمق تتقاطع فيها سياسات الهجرة الصارمة مع حقوق الإنسان الأساسية.
قد ينجح رجال الإطفاء في إخماد حرائق الغابات، لكن ما لم تُراجع السياسات الفيدرالية، ستظل هناك نار أخرى مشتعلة: نار الخوف وعدم الثقة بين المهاجرين الذين يضحون بحياتهم لحماية المجتمع، وبين سلطة تراهم في المقام الأول "مخالفين للقانون".