استطلاع رأي يكشف تحولاً تاريخياً في موقف الأمريكيين من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي

أجرته "نيويورك تايمز" وجامعة سيينا

استطلاع رأي يكشف تحولاً تاريخياً في موقف الأمريكيين من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
الدمار الذي لحق بقطاع غزة جراء الحرب

حين وقعت هجمات السابع من أكتوبر 2023، قبل عامين فقط، كان المشهد مختلفًا تمامًا، اندفع الرأي العام الأمريكي في لحظة صادمة إلى التعاطف مع إسرائيل بشكل واسع، واعتبرها كثيرون الضحية المباشرة لهجوم وُصف بالإرهابي والمدمر، في تلك اللحظة، انحاز 47% من الناخبين إلى إسرائيل مقابل 20% فقط للفلسطينيين، وفق استطلاعات الرأي آنذاك.

لكن ما كشفه اليوم استطلاع جديد أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" مع جامعة سيينا، يشي بتحول عميق يكاد ينسف عقودًا من الثوابت في السياسة الأمريكية: للمرة الأولى منذ عام 1998، لم تعد إسرائيل الطرف الذي يحظى بالنصيب الأكبر من تعاطف الأمريكيين، بل إن الفلسطينيين تجاوزوا الإسرائيليين في نسب التعاطف، وهو ما يشكل انعطافة غير مسبوقة في الذاكرة السياسية الأمريكية.

ففي الاستطلاع الذي جرى في الفترة ما بين 22 و27 سبتمبر 2025، قال 34% فقط من الأمريكيين إنهم يميلون إلى إسرائيل، فيما صرّح 35% بأنهم أكثر تعاطفًا مع الفلسطينيين، بينما توزعت النسبة الباقية -نحو 31%– بين غير متأكدين أو متعاطفين مع الطرفين على قدم المساواة.

ورغم أن الفارق يبدو ضئيلاً، فإنه يحمل دلالات كبيرة: ففي غضون عامين فقط، انتقل المزاج العام من منحاز بشدة لإسرائيل إلى موقف أكثر تشككًا، وربما أكثر انتقادًا لسياساتها العسكرية.

ولم يكن فقط الأكثر إثارة في نتائج الاستطلاع الانقسام في التعاطف، بل الموقف من الحرب ذاتها، فقد أظهرت الأرقام أن ستة من كل عشرة ناخبين أمريكيين يرون أنه يتعين على إسرائيل أن توقف حملتها العسكرية في غزة، حتى لو لم يتم إطلاق سراح الرهائن المتبقين أو القضاء على حركة حماس.

هذه النسبة المرتفعة توضح أن غالبية الأمريكيين باتت ترى في استمرار الحرب عبئًا إنسانيًا وسياسيًا لا يمكن تبريره، وإلى جانب ذلك، قال 40% من المستطلعة آراؤهم إنهم يعتقدون أن إسرائيل تقتل المدنيين عمدًا، وهي نسبة تضاعفت تقريبًا مقارنة بعام 2023، ما يكشف تصاعد القلق الأخلاقي لدى الجمهور الأمريكي حيال ما يجري في غزة.

تحول غير مسبوق

رغم أن الأرقام باردة، فإن القصص التي نقلتها الصحيفة عن المشاركين أضفت بعدًا إنسانيًا يعكس حجم هذا التحول، أحدهم، شاب ديمقراطي في الثالثة والثلاثين من عمره من ولاية أيداهو، قال إنه كان مؤيدًا قويًا لإسرائيل خلال السنوات الماضية، خاصة بعد أحداث 7 أكتوبر، لكنه مع طول أمد الحرب وما شاهده من "سوء معاملة إسرائيل للفلسطينيين"، لم يعد قادرًا على النظر إلى الصراع بالمنطق نفسه.

أما شانون كاري، وهي مساعدة طبيبة وأم من ولاية كونيتيكت، فقد ذهبت أبعد من ذلك حين وصفت ما يحدث بأنه "إبادة جماعية" مؤكدة أنها لم تعد تريد أن تموّل بلادها هذا القتل، جاءت شهادتها مشحونة بالبعد العاطفي، إذ أضافت: "كأم، رؤية هؤلاء الأطفال أمر مرعب، هذه ليست حربًا، بل مأساة إنسانية".

وفي المقابل، التقت الصحيفة بناخب جمهوري من مينيابوليس، قال إنه يرى أن إسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها، لكنه يصر على أن الولايات المتحدة يجب أن تظل في صفها.

مثل هذه الآراء تكشف الانقسام العميق بين الحزبين الأمريكيين، فبينما يميل الديمقراطيون اليوم إلى تبني خطاب أكثر انتقادًا لإسرائيل وأكثر تعاطفًا مع الفلسطينيين، لا يزال معظم الجمهوريين يقفون بثبات إلى جانب إسرائيل، وإن مع تراجع طفيف في الحماس.

كان التحول داخل الحزب الديمقراطي لافتًا بشكل خاص، ففي عام 2023 كان الديمقراطيون منقسمين بشكل متوازن تقريبًا بين الطرفين، لكن استطلاع 2025 أظهر قفزة كبرى: 54% من الديمقراطيين اليوم يتعاطفون مع الفلسطينيين، فيما لا يتجاوز المتعاطفون مع إسرائيل 13% فقط. 

لم يقتصر هذا الميل الجديد على الشباب أو الأقليات، بل شمل فئات كانت تاريخيًا من أكثر داعمي إسرائيل داخل الحزب، أي الديمقراطيين البيض الحاصلين على تعليم جامعي وكبار السن، ففي حين أظهر استطلاع 2023 أن الديمقراطيين فوق سن الخامسة والأربعين يتعاطفون مع إسرائيل بنسبة تفوق الضعف مقارنة بالفلسطينيين، جاء الاستطلاع الأخير ليكشف انقلابًا واضحًا: 42% منهم الآن يقفون مع الفلسطينيين، مقابل 17% فقط مع إسرائيل.

دعم لوقف الحرب

يعكس هذا التحول نزيفًا في أحد أهم مصادر الدعم التقليدية لإسرائيل داخل الولايات المتحدة، كما أن 80% من الديمقراطيين تقريبًا يرون أنه يجب وقف الحرب فورًا حتى لو لم تحقق إسرائيل أهدافها المعلنة، مقارنة بنحو 60% قالوا ذلك قبل عامين.

وأظهر الجمهوريون ثباتًا نسبيًا، لكن مع إشارات على تراجع محدود، ما زال 70% منهم يدعمون تقديم مساعدات جديدة لإسرائيل، وما زالوا يفضلون استمرار الحملة العسكرية حتى استعادة جميع الرهائن، لكن الاستطلاع كشف أيضًا أن نسبة المتعاطفين مع إسرائيل داخل الحزب تراجعت من 76% عام 2023 إلى 64% اليوم.

كما أن نحو ثلث الجمهوريين قالوا إن الجيش الإسرائيلي لا يفعل ما يكفي لتجنب مقتل المدنيين، هذه مؤشرات لا يمكن تجاهلها، حتى وإن كانت أصغر بكثير مقارنة بالتحول الجذري داخل الحزب الديمقراطي.

أما من الناحية الحقوقية، فإن نتائج الاستطلاع تُظهر بوضوح أن النقاش الأمريكي لم يعد مقتصرًا على الأمن والسياسة، بل انتقل إلى سؤال الأخلاق والعدالة، حين يقول أربعة من كل عشرة أمريكيين إن إسرائيل تقتل المدنيين عمدًا، فهذا يعني أن الرأي العام بدأ يرى في الحرب مسألة حقوق إنسان بقدر ما هي مسألة نزاع سياسي.

كما أن وصف بعض المشاركين لما يحدث بـ"الإبادة الجماعية" يعكس تصاعد لغة لم تكن سائدة في التيار العام الأمريكي من قبل.

يجد دونالد ترامب نفسه أكثر انسجامًا مع قاعدته الجمهورية، لكنه بدوره يواجه أصواتًا داخل حزبه تطالبه بتقليل التدخل الأمريكي وترك الإسرائيليين "يخوضون حربهم بأنفسهم".

ولم تكتف "نيويورك تايمز" بنقل النتائج والأصوات، بل حرصت على إيضاح منهجية الاستطلاع لتأكيد مصداقيته، فقد شمل الاستطلاع 1313 ناخبًا مسجلًا في عموم الولايات المتحدة، وأُجري عبر الهاتف والرسائل النصية باللغتين الإنجليزية والإسبانية، مع نسبة خطأ بلغت 3.2%.

تواصل الباحثون مع أكثر من 56 ألف ناخب لإجراء المقابلات، وأُعيد وزن النتائج لتتناسب مع التركيبة السكانية والديموغرافية للناخبين الأمريكيين.

أكثر من مجرد تغير

في النهاية، يبدو أن الاستطلاع يكشف أكثر من مجرد تغير في المزاج العام، إنه يفتح الباب أمام مراجعة عميقة للتحالف الأمريكي–الإسرائيلي، فمنذ تأسيس إسرائيل عام 1948 وحتى اليوم، كانت أكبر متلقٍّ للمساعدات الخارجية الأمريكية بإجمالي مئات المليارات من الدولارات، ودائمًا ما تمتعت بدعم واسع من الحزبين، لكن الأرقام الجديدة تشير إلى أن هذه المعادلة التاريخية قد لا تصمد طويلاً إذا استمرت حرب غزة على حالها.

فقد تحولت إسرائيل في وعي جزء متزايد من الأمريكيين من دولة ضحية إلى قوة عسكرية تسببت في "أزمة إنسانية"، كما وصفها بعض المستطلَعين، وإذا ما استمر هذا التحول، فقد يجد صانعو السياسة في واشنطن أنفسهم أمام واقع جديد، حيث لم يعد الرأي العام يقبل بسهولة أن تُصرف أموال الضرائب لدعم حرب تثير أسئلة أخلاقية أكثر مما تثير شعورًا بالتضامن.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية