الأمراض العادية تعود لتقتل.. تحذير عالمي من انهيار فاعلية المضادات الحيوية

نصف مليون وفاة سنوياً بسبب المقاومة الدوائية

الأمراض العادية تعود لتقتل.. تحذير عالمي من انهيار فاعلية المضادات الحيوية
المضادات الحيوية والبكتريا المقاومة

أطلقت منظمة الصحة العالمية تحذيرًا جديدًا وصفته بالخطير للغاية، بعد أن أظهرت بياناتها أن عدوى بكتيرية واحدة من كل ست في العالم باتت مقاومة للمضادات الحيوية، ما يهدد بإعادة البشرية إلى حقبة ما قبل اكتشاف البنسلين، حين كانت الجروح البسيطة والالتهابات الشائعة قادرة على قتل الملايين.

وأكدت المنظمة في تقريرها الصادر الاثنين، وفق ما أوردته وكالة فرانس برس، أن مقاومة المضادات الحيوية أصبحت واحدة من أبرز أسباب الوفيات الناجمة عن الأمراض المعدية، وسط تراجع فعالية الأدوية الحيوية وتسارع انتشار السلالات المقاومة على نطاق عالمي.

وقال إيفان هوتين، مدير إدارة التغطية الصحية الشاملة والأمراض السارية في المنظمة: “هذه النتائج مقلقة للغاية، فمع استمرار انتشار مقاومة المضادات الحيوية، نفقد الخيارات العلاجية، ونعرّض الأرواح للخطر”.

وباء صامت يتسارع

ظاهرة مقاومة المضادات ليست جديدة، لكنها تشهد منذ عقدين تسارعًا غير مسبوق نتيجة الإفراط في استخدام المضادات الحيوية في الطب البشري، والطب البيطري، والزراعة، وحتى في صناعة الأغذية، أدى ذلك إلى تكوين "حلقة قاتلة” تتيح للبكتيريا تطوير قدرات دفاعية متزايدة ضد الأدوية المصممة لقتلها.

ووفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية، فإن البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية مسؤولة مباشرة عن نصف مليون وفاة سنويًا، وتسهم في نحو 5 ملايين وفاة إضافية حول العالم، نتيجة تعقّد الإصابات وعدم فعالية العلاجات المتاحة.

في الفترة ما بين عامي 2018 و2021، ارتفعت مقاومة البكتيريا لأكثر من 40% من أنواع المضادات التي جرى تحليلها، مع معدل زيادة سنوي يتراوح بين 5% و15%، ما يجعل السيطرة على العدوى أكثر صعوبة حتى في المستشفيات المتقدمة.

انهيار خط الدفاع الأول

أوضح التقرير أن بعض أنواع العدوى الشائعة، مثل التهابات المسالك البولية والتهابات الدم والجهاز الهضمي والسيلان، باتت أكثر مقاومة للأدوية المستخدمة تقليديًا في علاجها، حيث تجاوزت نسب المقاومة 30% على مستوى العالم في حالات التهابات المسالك البولية وحدها.

ويحذر الخبراء من أن هذا الاتجاه يعني أن علاجات الخط الأول لم تعد فعالة كما كانت، وأن الأطباء باتوا يلجؤون إلى مضادات أقوى وأكثر تكلفة، ما يزيد من الضغط على الأنظمة الصحية في البلدان محدودة الموارد.

ويقول الدكتور تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية: “مقاومة المضادات الحيوية تتجاوز التقدم الذي حققناه في الطب الحديث، إنها تهدد كل عائلة وكل مريض في كل مكان. بدون تحرك عاجل، سنخسر أحد أعظم إنجازات القرن العشرين”.

خريطة المقاومة عالميًا

تكشف بيانات منظمة الصحة العالمية أن العبء الأكبر من مقاومة المضادات يقع على عاتق الدول ذات الأنظمة الصحية الضعيفة، حيث الرقابة محدودة وسوء استخدام الأدوية أكثر انتشارًا.

وسُجّلت أعلى نسب مقاومة في جنوب شرق آسيا وشرق المتوسط، حيث إن إصابة واحدة من كل ثلاث إصابات أظهرت مقاومة واضحة للمضادات.

وفي القارة الإفريقية، كانت إصابة واحدة من كل خمس إصابات مقاومة، وهي نسبة لا تزال أقل من المتوسط العالمي لكنها في تزايد مستمر.

ويُرجع الخبراء هذه التفاوتات إلى نقص أنظمة الرقابة الوطنية وضعف البنية التحتية المختبرية، بالإضافة إلى البيع العشوائي للمضادات دون وصفات طبية في العديد من الدول النامية.

نقص في الابتكار

في الوقت الذي تتزايد فيه معدلات المقاومة، يتناقص عدد المضادات الحيوية الجديدة التي هي قيد التطوير، وحذرت منظمة الصحة العالمية الأسبوع الماضي من أن عدد الاختبارات والعلاجات الجديدة لا يكفي لمواجهة حجم التهديد.

وقال إيفان هوتين إن الوضع يخلق مزيجًا بالغ الخطورة، مضيفًا أن الاستخدام المفرط للمضادات، وتزايد المقاومة، وغياب الأدوية الجديدة تشكّل معًا تهديدًا كبيرًا للمستقبل القريب.

فمن بين أكثر من 40 عقارًا مضادًا للميكروبات قيد التطوير عالميًا، تُصنّف الغالبية بأنها "مكررات كيميائية” لأدوية موجودة مسبقًا، ما يعني أنها لن تقدم حلولًا جوهرية لمواجهة البكتيريا الجديدة المتحورة.

جذور الأزمة

يُجمع العلماء على أن سوء استخدام المضادات الحيوية هو المحرك الأساسي للأزمة ففي كثير من الدول، تُستخدم هذه الأدوية بشكل مفرط لعلاج نزلات البرد الفيروسية التي لا تتأثر بالمضادات أصلاً.

أما في الزراعة، فيتم استخدامها محفزات للنمو في الثروة الحيوانية والدواجن، ما يُنتج سلالات مقاومة تنتقل عبر السلسلة الغذائية إلى الإنسان.

وتشير تقديرات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) إلى أن حوالي 70% من المضادات الحيوية المنتجة عالميًا تُستخدم في قطاع تربية الحيوانات، ما يجعل المزارع بيئة مثالية لتطور البكتيريا المقاومة.

وفي المستشفيات، يؤدي ضعف إجراءات التعقيم والوقاية من العدوى إلى انتشار البكتيريا المقاومة بسرعة بين المرضى، خصوصًا في وحدات العناية المركزة والجراحة.

الانعكاسات الإنسانية والصحية

أصبح تأثير مقاومة المضادات ملموسًا على المستوى الإنساني، إذ تتسبب في إطالة فترات العلاج وزيادة معدلات الوفيات، وتفاقم الفقر الصحي في المجتمعات الهشة.

تشير التقديرات إلى أن علاج مريض مصاب بعدوى مقاومة يكلف ما يصل إلى 3 أضعاف تكلفة علاج المريض العادي، بسبب الحاجة إلى أدوية أقوى وإقامة أطول في المستشفى.

وفي البلدان ذات الدخل المنخفض، تُعد العدوى المقاومة سببًا رئيسيًا في وفاة الأطفال حديثي الولادة نتيجة الالتهابات البكتيرية التي لا تستجيب للعلاج، وهو ما يهدد التقدم الذي أُحرز في خفض وفيات الرضع خلال العقود الماضية.

تراجع الشفافية والمراقبة

ورغم أن التقرير أشاد بالتحسينات في أنظمة المراقبة العالمية، فإن 48% من الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية لم تقدم أي بيانات حديثة عن مقاومة المضادات، ما يجعل الصورة العامة غير مكتملة.

وتقول المنظمة إن ضعف الإبلاغ والرقابة يعوق الجهود العالمية لوضع استراتيجيات فعالة، داعية الحكومات إلى تعزيز شبكات المراقبة المخبرية والاستثمار في أنظمة الإنذار المبكر.

وأطلقت منظمة الصحة العالمية منذ عام 2015 خطة العمل العالمية لمكافحة مقاومة المضادات، داعية إلى تقليل الاستخدام غير الضروري، وتشجيع الابتكار، وتعزيز التوعية العامة، لكن تنفيذ الخطة يسير ببطء، خاصة في الدول التي تعاني من صعوبات اقتصادية أو نظم صحية متداعية.

وتوصي المنظمة بـ: وضع قيود صارمة على وصف وبيع المضادات الحيوية، وتحسين ممارسات النظافة في المستشفيات والمزارع، ودعم البحث العلمي لتطوير أدوية ولقاحات جديدة، وتوعية المجتمعات بخطر الاستخدام العشوائي للأدوية

ويحذر الخبراء من أن استمرار الاتجاه الحالي سيجعل العالم بحلول عام 2050 يواجه وفاة شخص واحد كل ثلاث ثوانٍ بسبب العدوى المقاومة للمضادات الحيوية، أي أكثر من ضحايا السرطان مجتمعين.

ويقول المدير العام للمنظمة: إذا لم نتحرك الآن، فسندخل عصرًا طبيًا مظلمًا، حيث تصبح العمليات الجراحية البسيطة وزرع الأعضاء والولادة القيصرية إجراءات عالية الخطورة، وإن مقاومة المضادات ليست تهديدًا مستقبليًا، بل أزمة راهنة تمس كل بيت على هذا الكوكب.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية