العدالة في مواجهة الكراهية.. كيف تواجه بريطانيا النازية والفكر العنصري؟

العدالة في مواجهة الكراهية.. كيف تواجه بريطانيا النازية والفكر العنصري؟
القضاء البريطاني

أصدرت محكمة بريطانية أحكاماً مشددة بالسجن تراوحت بين 8 و11 عاماً على ثلاثة أشخاص أدينوا بالانتماء إلى فكر نازي متطرف والتخطيط لشن هجوم إرهابي ضد مسجد في شمال إنجلترا، في قضية وُصفت بأنها من أبرز ملفات مكافحة الإرهاب العنصري في البلاد خلال السنوات الأخيرة.

وفقاً لما أوردته صحيفة "مترو" البريطانية، حكمت المحكمة على بروغان ستيوارت بالسجن 11 عاماً، وكريستوفر رينغروز بعشر سنوات، وماركو بيتزيتو بثماني سنوات، بعد إدانة الثلاثة بتهمة التحضير لأعمال إرهابية وتداول مواد تحض على الكراهية العنصرية.

وجاءت هذه الأحكام بعد محاكمة استمرت تسعة أسابيع كشفت تفاصيل مروّعة عن الطريقة التي تحولت بها جماعة صغيرة عبر الإنترنت إلى خلية إرهابية ناشئة كانت تخطط لما وصفته النيابة بـ"إشعال حرب عرقية" في بريطانيا.

خلية رقمية وخطط دموية

أظهرت التحقيقات أن المتهمين شكلوا جماعة إلكترونية أطلقوا عليها اسم "Einsatz 14"، في إشارة واضحة إلى وحدات القتل النازية خلال الحرب العالمية الثانية، ومن خلال تطبيق "تلغرام"، تبادلوا مئات الرسائل التي تمجد أدولف هتلر وتشيد بمرتكبي جرائم الكراهية، إلى جانب مناقشة خطط لاستهداف مركز تعليمي إسلامي في مدينة ليدز واختطاف أحد الأئمة.

تمكنت شرطة مكافحة الإرهاب من كشف المجموعة بعد أن تسلل ضابط سري عُرف باسم "بلاك هارت" إلى قنواتهم المغلقة، حيث لاحظ تصاعد خطابهم العنيف وتحوله إلى تخطيط عملي لهجوم وشيك، وفي 20 فبراير 2024، نفذت السلطات عملية أمنية دقيقة أسفرت عن اعتقال المتهمين قبل تنفيذ أي عملية.

وضبطت الشرطة أكثر من 200 قطعة سلاح أبيض ومعدات واقية ومسدس صعق كهربائي، إضافة إلى أجزاء لسلاح ناري شبه آلي تمت طباعتها بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد. وأكد الادعاء أن المتهمين كانوا على وشك تجميع السلاح لاستخدامه في الهجوم، ما كان سيؤدي إلى "عواقب كارثية".

الأيديولوجية لا تزال خطراً قائماً

في حيثيات الحكم، أكد القاضي أن المتهمين الثلاثة يمثلون خطراً دائماً على المجتمع، وأن أيديولوجيتهم لا تزال متجذرة رغم اعتقالهم، مشيراً إلى أن "ما خططوا له كان سيودي بحياة أبرياء لو لم يُكتشف في الوقت المناسب".

وأضاف القاضي أن العقوبات الطويلة تهدف إلى ردع أي محاولة مشابهة لتوظيف العالم الرقمي في نشر الكراهية والعنف باسم "تفوق العرق الأبيض".

وشددت الشرطة البريطانية على أن هذه القضية تمثل نموذجاً متقدماً لمواجهة التطرف الرقمي، إذ لم يلتقِ المتهمون وجهاً لوجه قبل المحاكمة، بل تكونت روابطهم بالكامل عبر الإنترنت، وهو ما يعكس تحوّل التهديد الإرهابي من الميدان المادي إلى الفضاء الافتراضي.

تصاعد التطرف اليميني

تشير بيانات "مكتب الأمن ومكافحة الإرهاب" في وزارة الداخلية البريطانية إلى أن عدد القضايا المرتبطة بالتطرف اليميني تضاعف ثلاث مرات خلال السنوات الخمس الماضية، حيث يشكل اليمين المتطرف نحو 20 في المئة من مجمل التهديدات الإرهابية في البلاد وفقاً لتقرير جهاز الاستخبارات الداخلية (MI5) الصادر عام 2024.

كما كشفت الشرطة البريطانية أن عشرات التحقيقات الجارية تتعلق بمجموعات تنشط على الإنترنت تحت شعارات نازية جديدة أو رموز عنصرية مستوحاة من جماعات أجنبية، مثل "العمل الوطني" و"الدم والشرف"، وهي تنظيمات صنفتها الحكومة البريطانية منظمات إرهابية منذ عام 2016.

ويحذر خبراء الأمن من أن سهولة الوصول إلى المحتوى المتطرف عبر الإنترنت، وتنامي النزعة القومية عقب البريكست، أسهما في خلق بيئة خصبة لانتشار الفكر العنصري، خاصة بين فئة الشباب الذكور في الفئة العمرية بين 16 و25 عاماً داخل بريطانيا.

البعد الإنساني والاجتماعي

وراء هذه الأرقام يقف واقع اجتماعي متوتر، إذ تزايدت جرائم الكراهية الدينية في بريطانيا بنسبة 37 في المئة خلال عام 2023 بحسب وزارة الداخلية، وتركزت أغلبها ضد المسلمين واليهود، وتعد المساجد ودور العبادة من بين أكثر الأهداف تعرضاً للتهديد، ما أثار مخاوف متصاعدة داخل الجاليات الدينية.

وفي هذا السياق، قالت منظمات إسلامية في بريطانيا إن الأحكام القضائية الأخيرة تمثل "رسالة قوية ضد التطرف"، لكنها دعت الحكومة إلى معالجة الأسباب العميقة التي تغذي الكراهية، مثل التهميش الاجتماعي والتمييز في الخطاب الإعلامي.

كما أشار "مجلس المسلمين في بريطانيا" إلى أن مواجهة النازية الجديدة يجب ألا تقتصر على الجانب الأمني، بل تشمل أيضاً الاستثمار في التعليم والتثقيف المجتمعي وتعزيز قيم التعايش، محذراً من "خطر تحوّل الشباب المهمشين إلى فريسة سهلة لخطاب الكراهية الرقمي".

ردود فعل حقوقية دولية

رحبت منظمات حقوقية دولية، ننها منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، بالأحكام الصادرة معتبرة أنها خطوة مهمة في مواجهة ما يسمى "الإرهاب الأبيض"، لكنها حذرت في الوقت ذاته من أن السياسات الأمنية وحدها لا تكفي.

وقالت منظمة العفو في بيانها إن "معالجة الفكر المتطرف تتطلب استراتيجيات شاملة تشمل التعليم ومكافحة التمييز وإزالة الأسباب الاجتماعية التي تدفع الشباب إلى العنف"، مؤكدة أن "العدالة يجب أن تتوازن مع حماية الحريات العامة".

وفي تقرير صادر عن المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بمكافحة العنصرية عام 2024، حذر الدول الأوروبية من "المد العنصري الجديد" الذي يتغذى من خطاب الكراهية السياسي والإعلامي، مؤكداً أن استخدام القضاء أداة للمساءلة القانونية ضد التحريض على الكراهية يمثل "ضرورة لحماية السلم الأهلي".

البعد القانوني لمكافحة التطرف

تستند المحاكم البريطانية في تعاملها مع هذه القضايا إلى "قانون الإرهاب لعام 2000" الذي يجرّم التحضير لأعمال إرهابية وحيازة مواد تستخدم في تنفيذها، وكذلك "قانون الجرائم الإلكترونية" الذي يُمكّن السلطات من ملاحقة المتطرفين عبر الإنترنت.

وقد شهدت بريطانيا في السنوات الأخيرة تطويراً لآليات "الوقاية من التطرف" المعروفة باسم برنامج “Prevent” الذي يهدف إلى اكتشاف حالات التطرف قبل تحولها إلى تهديد فعلي، لكن هذا البرنامج تعرض لانتقادات حقوقية تتعلق بإمكانية إساءة استخدامه في مراقبة حرية التعبير، ما دفع الحكومة إلى مراجعة سياساته في 2023 لتشمل اليمين المتطرف بشكل أوضح بعد أن كانت تركز في البداية على الجماعات الإسلامية المتشددة.

ويرى مختصون في القانون الدولي أن تشديد الأحكام القضائية على جرائم الكراهية يشكل التزاماً بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التمييز العنصري التي صدّقت عليها بريطانيا عام 1969، والتي تفرض على الدول الأطراف اتخاذ تدابير فعالة لمنع التحريض على الكراهية العنصرية.

امتداد لسلسلة من المحاكمات 

تُعد هذه القضية امتداداً لسلسلة من المحاكمات التي استهدفت جماعات نازية جديدة في بريطانيا، ففي عام 2018، حُكم على خمسة أعضاء من تنظيم "العمل الوطني" بالسجن لفترات تراوحت بين 6 و12 عاماً بعد إدانتهم بالتخطيط لاغتيال نائبة البرلمان جو كوكس التي قُتلت على يد متطرف يميني عام 2016.

ومنذ ذلك الحين، أدرجت الحكومة أكثر من 30 منظمة على قائمة الإرهاب المحلي، معظمها من جماعات اليمين المتطرف، وأطلقت حملات توعية تستهدف المدارس والجامعات في محاولة لوقف انتشار الفكر العنصري بين الشباب.

يرى مراقبون أن بريطانيا تخوض اليوم معركة مزدوجة: قضائية، وفكرية. فمن جهة، يوجه القضاء أحكاماً صارمة لردع كل من تسول له نفسه التورط في الإرهاب العنصري، ومن جهة أخرى تسعى الدولة لتطوير برامج الوقاية وإعادة التأهيل للحد من إعادة إنتاج التطرف.

وتؤكد التقارير الحكومية أن التعاون بين الشرطة والأجهزة الأمنية والمنصات الرقمية أسفر عن إزالة أكثر من 30 ألف منشور متطرف خلال العام الماضي، إلا أن الجماعات اليمينية تواصل استخدام قنوات مشفرة ومواقع مغلقة لتجنيد الأتباع، ما يطرح تحدياً متصاعداً في ميدان الأمن السيبراني.

العدالة جدار حماية للمجتمع

في النهاية، تمثل الأحكام الأخيرة ضد عناصر "Einsatz 14" أكثر من مجرد إدانة لثلاثة أشخاص، فهي تعبير عن موقف قضائي واضح بأن الفكر النازي الجديد لا مكان له في المجتمع البريطاني الحديث.

لكنها أيضاً تذكير بأن معركة الأفكار لا تُحسم داخل قاعات المحاكم وحدها، بل في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام التي تشكل وعي الأجيال الجديدة عبر بناء ثقافة إنسانية تعيد الثقة في قيم التعايش والاحترام المتبادل.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية