تحويل المعاناة إلى سلعة.. الذكاء الاصطناعي يزيف الفقر باسم الإنسانية

تحويل المعاناة إلى سلعة.. الذكاء الاصطناعي يزيف الفقر باسم الإنسانية
الذكاء الاصطناعي - أرشيف

يُعيد الذكاء الاصطناعي رسم ملامح العمل الإنساني في العالم، لكن هذه المرة ليس من خلال تحسين أدوات الاستجابة أو تسريع إيصال المساعدات، بل عبر خلق صورٍ مُزيّفة تُجسّد الفقر والضعف الإنساني على نحوٍ لا يمتّ إلى الواقع بصلة، وبينما تتباهى وكالات إغاثة باستخدام التكنولوجيا لتجاوز عوائق الموافقات والتكاليف، تُثار اليوم أسئلة أخلاقية عميقة حول الحق في الصورة، والكرامة الإنسانية، وملكية السرد البصري عن الفقر والمعاناة.

تقول صحيفة "الغارديان" في تحقيقٍ موسّع نشرته اليوم الاثنين، إن مواقع الصور الفوتوغرافية تغمرها الآن آلاف الصور المُولّدة بالذكاء الاصطناعي، تُظهر أطفالًا جياعًا، ونساءً ناجيات من العنف الجنسي، ومناطق منكوبة، وتُستخدم في حملاتٍ رقمية تدّعي دعم الفقراء والمهمّشين، هذه الصور ليست لأشخاصٍ حقيقيين، لكنها تُحاكي -وبشكلٍ مبالغ فيه- أنماط "إباحية الفقر" القديمة التي لطالما انتُقدت في مجال الاتصال الإنساني.

ووفقًا للباحث أرسيني ألينيشيف من معهد الطب الاستوائي في أنتويرب، الذي جمع أكثر من 100 صورة من هذا النوع، فإن الصور تُعيد إنتاج "القواعد البصرية للفقر": أطفال بأطباقٍ فارغة، أرضٌ متشققة، عيون دامعة، وأجساد هزيلة، لكنه يضيف أن الخطورة الجديدة تكمن في كون هذه الصور تبدو حقيقية بما يكفي لتُخدع بها العيون والعقول على السواء.

الحق في الكرامة الرقمية

يرى خبراء في الأخلاقيات الإنسانية أن استخدام الذكاء الاصطناعي في تمثيل الفقر يمسّ جوهر الحق في الكرامة، فكما تُلزم الاتفاقيات الدولية بحماية صورة الأشخاص وهويتهم من التشويه أو الاستغلال، فإن توليد صورٍ "افتراضية" لفقراء غير موجودين هو اعتداء رمزي على ملايين البشر الذين يُختزل فقرهم في رموز بصرية مكرّرة ومهينة.

ويقول نوح أرنولد، من منظمة فيربيكتشر السويسرية المعنية بتعزيز الصور الأخلاقية في التنمية العالمية، إن "الصور المُزيّفة تُحوّل المعاناة إلى سلعة"، مشيرًا إلى أن الذكاء الاصطناعي جعل من الممكن إنتاج "مشهد إنساني نموذجي" يخدم العاطفة والتمويل، لا الحقيقة والكرامة.

وتُضيف دورية Alternatives Humanitaires أو "البديل الإنساني"، في تقريرها الأخير أن هذه الممارسات تُكرّس عدم المساواة في السرد الإنساني، إذ تُنتج الغالبية من هذه الصور في شمال العالم لتُمثّل جنوبه، بما يُعيد إنتاج منطق السيطرة البصرية القديم الذي يجعل من الجنوب "موضوعًا للرؤية لا ذاتًا للرواية".

التكلفة تُبرّر الوسيلة

تُشير "الغارديان" إلى أن دوافع لجوء بعض المنظمات إلى الصور المُولّدة بالذكاء الاصطناعي تتعلق بانخفاض التمويل وصعوبة الحصول على موافقات من المستفيدين لتصويرهم، يقول ألينيشيف إن تخفيضات التمويل الأمريكي للمنظمات غير الحكومية دفعت بعض المؤسسات إلى "استبدال الحقيقة بالاحتمال".

لكن المدافعين عن أخلاقيات العمل الإنساني يرفضون هذه المبررات، فكما يوضح تقرير"البديل الإنساني"، فإن الحق في التنمية لا يمكن فصله عن الحق في التمثيل الكريم، فحين تُستخدم الصور المزيّفة لتوليد التعاطف، تُصبح التنمية فعلًا تجميليًا يخفي اختلالات القوة بدل أن يعالجها.

ويُضيف التقرير أن الحل لا يكمن في إلغاء التكنولوجيا، بل في إخضاعها لقواعد العدالة البصرية التي تضمن أن يُمثَّل الفقراء بكرامة، وأن يكونوا طرفًا في رواية صورتهم لا مجرد خلفية رمزية للشفقة.

سياسات صارمة لحماية الصورة

تُظهر أمثلة كثيرة، بحسب "الغارديان"، كيف تسلّلت هذه الظاهرة إلى مؤسساتٍ كانت تتبنّى سابقًا سياسات صارمة لحماية الصورة، ففرع منظمة "بلان انترناشيونال" في هولندا استخدم عام 2023 صورًا مُولّدة بالذكاء الاصطناعي لفتاة تحمل كدمات في وجهها ضمن حملة ضد زواج الأطفال، وبرّرت المنظمة استخدام تلك الصور بأنها لحماية خصوصية الفتيات الحقيقيات.

وفي العام نفسه، نشرت الأمم المتحدة مقطع فيديو يتضمّن "إعادة تمثيل" بالذكاء الاصطناعي لاعتداء جنسي في بوروندي، واعتذرت لاحقًا بعد انتقادات حادة حول الخلط بين الشهادة الإنسانية والمشهد المُصطنع.

يقول تقرير "البديل الإنساني" إن مثل هذه الحالات تُظهر "ضبابية أخلاقية خطيرة" في القطاع الإنساني، إذ لم تعد هناك حدود واضحة بين التوثيق والتخييل، ولا بين الحماية والاستغلال.

يُجمع الباحثون على أن أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية لا تعمل في فراغ، بل تُكرّر ما وُجد في بياناتها الأصلية من تحيّزاتٍ ثقافية وعرقية، فحين تُدرَّب النماذج على صورٍ نمطية للفقر من إفريقيا أو آسيا، فإنها تُضخّم هذه الأنماط وتُعيد تدويرها في محتواها الجديد، ما يجعل الفقر دائمًا داكن البشرة، والنجاة دائمًا أنثوية، والإنقاذ دائمًا قوقازيًا.

ويحذّر الباحث ألينيشيف من أن استمرار هذا النمط سيُنتج "جيلًا من النماذج البصرية المشبعة بالتمييز"، تُغذّي نفسها بالصور نفسها التي أنتجتها، إنها حلقة مغلقة من التحيّز تُهدّد بتقويض الحق في التمثيل العادل.

نحو ميثاق للعدالة البصرية

في ضوء هذا الجدل، تتنامى الدعوات داخل الأوساط الحقوقية والإنسانية لوضع ميثاق دولي للعدالة البصرية يُحدّد الضوابط الأخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التصوير الإنساني، وتقترح "البديل الإنساني" إنشاء آلية إشراف مشتركة بين المنظمات الإنسانية والجهات الأكاديمية لضمان احترام مبادئ الموافقة، والشفافية، والكرامة.

كما يدعو خبراء في الاتصال الإنساني إلى إعادة الاعتبار لمبدأ "المشاركة في الصورة"، أي أن يكون المستفيدون شركاء في إنتاج محتواهم البصري لا مجرد موضوع له، سواء أكان واقعيًا أم رقمياً.

تكشف هذه القضية أن الذكاء الاصطناعي لا يهدّد فقط سوق العمل أو الخصوصية، بل جوهر إنسانيتنا في تمثيل الذات والآخر، فحين تُستبدل التجارب الحقيقية بصورٍ مُولّدة، يُمحى صوت من عانوا فعلًا، ويُختزل الفقر في قوالب شكلية لا تعبّر عن كرامة أحد.

وكما تقول "البديل الإنساني": "إن التمثيل البصري للمعاناة ليس مجرد أداة للتواصل، بل فعلا سياسيا وأخلاقيا يحدّد من يُرى ومن يُنسى".

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية