حماية الإنسان.. تقرير أوروبي يرصد إصلاحات جورجيا في مواجهة الاتجار بالبشر

حماية الإنسان.. تقرير أوروبي يرصد إصلاحات جورجيا في مواجهة الاتجار بالبشر
جورجيا

أظهر تقرير حديث صادر عن هيئة خبراء مجلس أوروبا لمكافحة الاتجار بالبشر المعروفة باسم "جريتا"، أن جورجيا أحرزت تقدمًا ملموسًا في تعزيز حماية الفئات الأكثر عرضة للاستغلال خلال الأعوام بين 2020 و2024. 

التقرير، الذي يعد الأحدث ضمن سلسلة تقييمات دورية لدول القارة، يشير إلى أن تبليسي لم تكتفِ بتطوير القوانين فحسب، بل شرعت في تنفيذ سياسات عملية تستهدف الضحايا بشكل مباشر، في ظل واقع اقتصادي واجتماعي معقد جعل الأطفال والمهاجرين واللاجئين في طليعة الفئات المهددة.

التقرير وفق موقع المجلس الأوروبي يسلط الضوء على سلسلة من الإجراءات، بينها اعتماد خطط وطنية نصف سنوية لمكافحة الاتجار بالبشر، وافتتاح مأوى حكومي جديد في العاصمة عام 2023، إلى جانب تعديل قانون مكافحة الاتجار عام 2021 ليتيح للضحايا الحصول على تعويضات حكومية حتى في حال تلقيهم تعويضات من الجناة، وهذه الخطوات، بحسب الهيئة الأوروبية، تمثل تحولاً في فلسفة الدولة من الاكتفاء بالمعاقبة إلى تبني نهج شامل للوقاية والحماية وإعادة التأهيل.

خريطة الاتجار في جورجيا

وفق التقرير، تم تحديد هوية 49 ضحية للاتجار بالبشر في جورجيا خلال السنوات الأربع الماضية، كانت الغالبية من النساء، ونحو نصفهم من الأطفال، أما الشكل الأكثر شيوعًا من الاستغلال فكان التسول القسري، تليه العمالة القسرية والاستغلال الجنسي، وتشير البيانات إلى أن 73 في المئة من الضحايا هم من الأجانب، ينحدرون من أذربيجان وروسيا وتايلاند وأرمينيا، بينما استمر تصدير مواطنين جورجيين للاتجار بهم في دول أوروبية وشرق أوسطية، منها ألمانيا وإيطاليا وتركيا وإيران.

يؤكد التقرير أن هذه الاتجاهات تكشف عن طابع عابر للحدود لجريمة الاتجار بالبشر، وعن تزايد تعقيد شبكاتها بفعل العوامل الاقتصادية والتحولات الاجتماعية، كما يرصد التقرير أن الأطفال من الأقليات العرقية، خصوصًا من أصول أذربيجانية وغجرية، يشكلون الفئة الأكثر عرضة، في ظل ضعف الحماية الأسرية وتزايد ظاهرة تسربهم من التعليم.

وتُظهر نتائج تقييم "جريتا" أن طالبي اللجوء واللاجئين في جورجيا يواجهون ظروفًا تجعلهم أكثر عرضة للاتجار، بسبب الفقر، وصعوبة الوصول إلى سوق العمل، ومحدودية برامج الاندماج الاجتماعي، ودعت الهيئة السلطات إلى تكثيف تدريب العاملين في المراكز الحكومية على مؤشرات الاتجار بالبشر، وتحسين نظم الكشف المبكر والاستجابة السريعة، مع التركيز على حماية النساء والأطفال الذين يعيشون في مراكز الإيواء أو على هامش المجتمع.

وفي سياق متصل، ثمّنت الهيئة توسع ولاية مكتب تفتيش العمل لتعزيز الرقابة على أوضاع العمال المهاجرين، لكنها حذّرت من محدودية الموارد البشرية في المناطق الريفية، حيث يُعتقد أن الانتهاكات تمرّ دون رصد أو ملاحقة، وأوصت بضرورة توفير موارد إضافية للمفتشين، وتطوير اتفاقيات ثنائية مع الدول المصدّرة للعمالة، بهدف الوقاية عبر التدريب والتوعية والرقابة المشتركة.

التكنولوجيا كجبهة للاتجار

يشير التقرير إلى بروز بعدٍ مستجد يتمثل في استخدام الإنترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي لتجنيد الضحايا، خصوصًا من الأطفال والمراهقين، فبينما كانت أشكال الاتجار التقليدية تعتمد على شبكات أرضية، فإن التكنولوجيا فتحت قنوات خفية يصعب رصدها بالوسائل التقليدية.

وتدعو "جريتا" الحكومة الجورجية إلى رفع قدرات الأجهزة الأمنية في مجال الأمن السيبراني، وتعزيز التعاون مع شركات الاتصالات ومقدمي الخدمات الرقمية لكشف الأنشطة المشبوهة، مؤكدة أن الحماية الإلكترونية أصبحت مكونًا أساسيًا في معادلة مكافحة الاتجار.

وفي الجانب القضائي، أبرز التقرير الحاجة إلى ضمان مقاضاة قضايا الاتجار باعتبارها جرائم خطيرة مستقلة، لا كجرائم فرعية ضمن قضايا أخرى، لضمان إنزال العقوبات المناسبة وردع الجناة، كما شدد على أهمية جمع الأدلة حول الأضرار المادية والنفسية التي لحقت بالضحايا، لتمكينهم من الحصول على التعويضات المستحقة في إطار المحاكمات الجنائية.

وتوصي "جريتا" كذلك بإعادة النظر في آلية الإحالة الوطنية، بحيث لا يتوقف الاعتراف بصفة الضحية على تعاونها مع السلطات القضائية، إذ قد يمتنع العديد من الضحايا عن الشهادة خوفًا من الانتقام أو من الوصم الاجتماعي، وهذه المراجعة من شأنها أن تضمن نهجًا أكثر إنسانية يراعي الصدمات النفسية التي يعانيها الضحايا، كما تتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

المجتمع المدني في مرمى التشريعات

من بين أبرز القضايا المثيرة للقلق التي تناولها التقرير، التعديلات التشريعية الأخيرة في جورجيا التي قد تؤثر على عمل منظمات المجتمع المدني العاملة مع ضحايا الاتجار بالبشر، فالقوانين الجديدة المتعلقة بما يُعرف بتصنيف المنظمات كـ"عملاء أجانب" يمكن أن تؤدي إلى كشف بيانات المستفيدين من المساعدة، بما في ذلك ضحايا الاتجار، وهو ما يمثل تهديدًا مباشرًا لخصوصيتهم وسلامتهم.

وتدعو الهيئة الأوروبية الحكومة الجورجية إلى بناء شراكات قائمة على الثقة مع منظمات المجتمع المدني، باعتبارها حلقة الوصل الأولى مع الضحايا، وإلى حماية هوية من يتلقون الدعم القانوني أو النفسي.

ومن منظور القانون الدولي، تُعد جهود جورجيا متقدمة نسبيًا في محيطها الإقليمي. فهي دولة طرف في اتفاقية مجلس أوروبا لمكافحة الاتجار بالبشر منذ عام 2008، كما تخضع تقاريرها لمراجعة دورية من اللجنة الأممية المعنية بالقضاء على الجريمة المنظمة، وقد أشادت المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان مؤخرًا بالتدابير التي اتخذتها تبليسي لتقريب منظومتها القانونية من المعايير الأوروبية، بما يشمل إدماج مقاربة تركز على الضحية في التشريعات الوطنية.

وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن الاتجار بالبشر يظل ثالث أكبر نشاط إجرامي في أوروبا الشرقية بعد تهريب المخدرات والسلاح، حيث يُقدّر عدد الضحايا في المنطقة بأكثر من 250 ألف شخص سنويًا، وفي هذا السياق، تبدو خطوات جورجيا نحو تطوير مؤسساتها ورفع وعيها المجتمعي جزءًا من تحول أوسع تسعى إليه دول المنطقة لمواءمة سياساتها مع المواثيق الأممية.

أبعاد إنسانية في مسار الإصلاح

ورغم الإنجازات القانونية والإدارية، يظل البعد الإنساني هو التحدي الأبرز في مسيرة مكافحة الاتجار بالبشر في جورجيا، فالمأوى الحكومي الجديد في تبليسي مثّل ملاذًا لعشرات الضحايا، بينهم أطفال وشباب نجوا من الاستغلال، إلا أن الحاجة ما زالت قائمة إلى مزيد من المراكز في المناطق النائية، وإلى برامج طويلة الأمد لإعادة دمج الضحايا في المجتمع وتأهيلهم نفسيًا واقتصاديًا.

تؤكد منظمات حقوق الإنسان المحلية أن التعافي لا يتحقق بمجرد إنقاذ الضحية من الشبكة الإجرامية، بل يتطلب بيئة اجتماعية واقتصادية تحصنه من العودة إلى دائرة الخطر، وتشير تقديرات منظمات غير حكومية في تبليسي إلى أن ثلث الضحايا الذين غادروا الملاجئ خلال العامين الماضيين واجهوا صعوبات في إيجاد فرص عمل مستقرة أو الحصول على سكن آمن.

نحو نموذج إقليمي للمكافحة

يرى خبراء الأمم المتحدة أن النموذج الجورجي في مكافحة الاتجار بالبشر يمكن أن يشكل تجربة مرجعية لجيرانها في جنوب القوقاز، خصوصًا لجهة الجمع بين الردع القانوني والتدابير الاجتماعية، فالتشريعات الصارمة وحدها لا تكفي دون بناء وعي عام يرفض الاستغلال ويعزز ثقافة الوقاية.

ويخلص تقرير "جريتا" إلى أن مكافحة الاتجار بالبشر ليست مسؤولية أجهزة إنفاذ القانون فقط، بل هي مشروع وطني يستلزم تعاون المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني والقطاع الخاص، إلى جانب التعاون الدولي، فالقضية، كما يصفها التقرير، ليست أمنية فحسب، بل أخلاقية وإنسانية تمس كرامة الإنسان في جوهرها.

جورجيا تُعد من الدول الموقعة على اتفاقية مجلس أوروبا لمكافحة الاتجار بالبشر منذ عام 2008، وتخضع لآلية المراجعة الدورية التي تديرها هيئة "جريتا"، وقد شهدت البلاد منذ عام 2010 تحديثات متتالية لقوانينها، أبرزها إدماج مفهوم الاتجار بالأطفال كجريمة مستقلة، وتوسيع مظلة الحماية القانونية لتشمل ضحايا العمل القسري والزواج القسري، كما أطلقت الحكومة منذ عام 2014 سلسلة حملات توعوية وطنية بالشراكة مع منظمة الهجرة الدولية، أسهمت في خفض معدلات التجنيد في المناطق الريفية بنسبة 30 في المئة خلال عقد واحد.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية