عدالة ما بعد الحرب.. أوروبا تُحمّل موسكو مسؤولية التهجير والاحتجاز في جورجيا
253 مليون يورو تعويضات إنسانية
في قرار اعتُبر سابقة قضائية وإنسانية جديدة، قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بإلزام روسيا بدفع أكثر من 253 مليون يورو إلى جورجيا، تعويضًا عن انتهاكات طالت عشرات الآلاف من المدنيين في أعقاب الحرب التي اندلعت بين البلدين عام 2008.
القرار الذي صدر في ستراسبورغ، الثلاثاء، بحسب فرانس برس أعاد إلى الواجهة واحدة من أكثر الحروب دموية في القوقاز الحديث، وركّز على ما وصفته المحكمة بأنه "انتهاكات ممنهجة وطويلة الأمد" لحقوق السكان المتضررين في المناطق الانفصالية: أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، حيث تحوّلت خطوط الفصل إلى رموز لمعاناة إنسانية مستمرة منذ أكثر من عقد ونصف.
انتهاكات ما بعد الحرب
رأت المحكمة أن إقامة تلك الخطوط الإدارية التي رسمتها روسيا منذ عام 2009، بعد وقف العمليات العسكرية، شكّلت أساسًا لانتهاكات متواصلة تمسّ الحقوق الأساسية لما يقرب من 29 ألف شخص من جورجيا، هؤلاء وجدوا أنفسهم محاصرين خلف حدود جديدة تفصلهم عن منازلهم وأراضيهم وأقاربهم، في مناطق كانت جزءًا من حياتهم اليومية.
وجاء في قرار المحكمة أن التعويضات تشمل الأضرار المعنوية الناتجة عن القيود غير القانونية المفروضة على حرية التنقل والإقامة والوصول إلى الممتلكات، وكذلك عن حالات الاحتجاز غير القانوني التي طالت أكثر من 2500 شخص حاولوا عبور خطوط الفصل، فضلًا على الانتهاكات التي مستّ الحق في التعليم باللغة الجورجية داخل المناطق الانفصالية.
القرار الأوروبي لم يأتِ من فراغ، إذ سبق أن دانت المحكمة روسيا في عام 2024 على خلفية ما وصفته بعملية "ترسيم الحدود غير القانونية" داخل الأراضي الجورجية، والتي خلقت واقعًا سياسيًا وإنسانيًا جديدًا فرض عزلة قسرية على آلاف المدنيين.
غير أن الجديد في الحكم الأخير هو تحديد قيمة التعويضات المالية الواجبة للضحايا، وهو ما يجعل من القرار خطوة متقدمة في مسار المساءلة الدولية عن الجرائم والانتهاكات المرتبطة بالنزاع الروسي الجورجي.
ورغم وضوح الحكم، فإن الشكوك تحيط بإمكانية تنفيذه. فروسيا التي تم استبعادها من مجلس أوروبا عام 2022 عقب غزوها لأوكرانيا، لم تعد تعترف بقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ولا تعد نفسها ملزمة بها، رافضة دفع الغرامات السابقة أو التعاون مع آليات المراقبة القضائية.
لكن المحكمة شددت على أن لجنة الوزراء في مجلس أوروبا ستواصل متابعة تنفيذ الأحكام الصادرة ضد موسكو، مؤكدة أن التزامات روسيا القانونية تبقى قائمة فيما يتعلق بالانتهاكات التي وقعت قبل تاريخ انسحابها من المجلس.
معاناة المدنيين
الضحايا الذين شملهم القرار هم في غالبيتهم من السكان الجورجيين الذين تم تهجيرهم أو منعهم من العودة إلى منازلهم في أعقاب النزاع المسلح في أغسطس 2008. كثير منهم يعيشون منذ ذلك الحين في مخيمات مؤقتة أو مستوطنات بديلة داخل الأراضي الجورجية، محرومين من الوصول إلى أراضيهم الزراعية أو منازلهم الأصلية.
شهادات بعض المتضررين التي أوردتها منظمات حقوقية دولية كشفت عن قصص إنسانية مؤلمة لأسر فُصلت بين جانبي خط الفصل، وأطفال حُرموا من التعليم بلغتهم الأم، ومزارعين فقدوا مصدر رزقهم بعد أن تحولت أراضيهم إلى مناطق عسكرية مغلقة.
منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" رحبت بالقرار الأوروبي وعدّته خطوة نحو إحقاق العدالة، لكنها شددت على أن "العدالة الحقيقية تتحقق عندما يتمكن الضحايا من العودة إلى منازلهم ويتم تنفيذ التعويضات فعليًا".
الأبعاد السياسية والقانونية
يأتي هذا الحكم في لحظة معقدة سياسيًا، حيث تتزايد التوترات بين روسيا والغرب على خلفية الحرب في أوكرانيا، ما يجعل مسألة تنفيذ قرارات المحكمة الأوروبية أكثر صعوبة، إلا أن قرار المحكمة يحمل رمزية كبيرة في تأكيده استمرارية المسؤولية القانونية للدول حتى بعد انسحابها من المنظومات الدولية التي كانت طرفًا فيها.
ويرى خبراء القانون الدولي أن القرار يعيد تأكيد مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وعلى أن العدالة الأوروبية قادرة على ملاحقة الانتهاكات التي تمس المدنيين، حتى إن رفضت الدول المتهمة الاعتراف بها، كما يُعد الحكم تذكيرًا بأن المعاناة الإنسانية في جنوب القوقاز لم تنته بانتهاء الحرب، بل استمرت تحت مظلة السيطرة والانقسام والتهجير.
حرب أغسطس 2008 بين روسيا وجورجيا استمرت خمسة أيام فقط، لكنها خلفت آثارًا إنسانية وجغرافية عميقة، فقد أعلنت موسكو لاحقًا اعترافها باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، في حين عدّ المجتمع الدولي تلك المناطق أراضيَ جورجية محتلة.
وبينما عاد الهدوء النسبي إلى المنطقة، ظلت آثار الحرب في الأرض وفي النفوس شاهدة على انقسام لم يُمحَ. خطوط الأسلاك الشائكة التي تفصل بين القرى الجورجية والمناطق الانفصالية أصبحت رمزًا لعزلة قسرية يعيشها الآلاف يوميًا، تذكّرهم بأن الحرب لم تنتهِ حقًا.
محكمة حقوق الإنسان
المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تأسست عام 1959 ومقرها ستراسبورغ في فرنسا، تُعد الجهة القضائية العليا في أوروبا، والمختصة بالنظر في الانتهاكات المزعومة للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وتضم المحكمة 46 دولة عضوًا في مجلس أوروبا، كانت روسيا منها حتى عام 2022.
ومنذ استبعادها على خلفية غزو أوكرانيا، توقفت موسكو عن التعاون مع مؤسسات المجلس، إلا أن المحكمة تؤكد أن مسؤولية روسيا عن الانتهاكات السابقة تظل قائمة، ما يتيح للضحايا في النزاعات القديمة، مثل الحرب الجورجية الروسية، مواصلة مطالباتهم القانونية.
القضية الأخيرة تمثل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من المنازعات بين جورجيا وروسيا أمام المحكمة الأوروبية، بدأت منذ عام 2014، وتهدف إلى توثيق الانتهاكات وتعويض المتضررين من آثار الحرب والاحتلال والانقسام الذي مزق البلاد منذ ذلك الحين.