على حساب البيئة والصحة.. كيف تحولت نفايات بريطانيا إلى منجم ذهب لعصابات الجريمة المنظمة؟
على حساب البيئة والصحة.. كيف تحولت نفايات بريطانيا إلى منجم ذهب لعصابات الجريمة المنظمة؟
في واحدة من أكثر الصور إيلاماً للتقاطع بين الجريمة والبيئة، كشفت لجنة في مجلس اللوردات البريطاني أن جماعات الجريمة المنظمة تجني ملايين الدولارات سنوياً من خلال التخلص غير القانوني من النفايات في أنحاء المملكة المتحدة، في منظومة وصفها اللوردات بأنها "منخفضة المخاطر وعالية المكافأة".
وفق تقرير نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية اليوم الثلاثاء، أظهر التحقيق البرلماني الذي وُجّهت نتائجه إلى وزارة البيئة البريطانية، أن ما لا يقل عن 38 مليون طن من القمامة تُدار سنوياً بطرق غير قانونية، في بلد يُفترض أنه من أكثر دول العالم التزاماً بالقوانين البيئية.
نفايات بلا رقيب وبيئة بلا حماية
قالت اللجنة إن فشل السلطات في إنفاذ القانون على مدى سنوات جعل من جرائم النفايات قطاعاً مربحاً للجريمة المنظمة، وأدى إلى "عواقب بيئية واقتصادية واجتماعية خطيرة".
التقرير دعا الحكومة إلى مراجعة جذرية للسياسات خلال 18 شهراً، مطالباً بإنهاء ما وصفه بـ"الدوامة البيروقراطية" التي يتنقل فيها المواطنون بين الوكالات المختلفة عند الإبلاغ عن الجرائم دون أن تتحمل أي جهة مسؤولية مباشرة.
وبحسب التقرير، تكلف هذه الجرائم الاقتصاد البريطاني أكثر من مليار جنيه إسترليني سنوياً، تشمل نفقات تنظيف المواقع الملوثة وخسائر الضرائب والإيرادات المهدرة على الشركات المشروعة، فضلاً عن تهرب يُقدّر بنحو 150 مليون جنيه من ضريبة مكبات النفايات وحدها.
القمامة تتحول إلى تجارة منظمة
منذ أكثر من عقد، شهدت المملكة المتحدة تصاعداً حاداً في ظاهرة التخلص غير القانوني من النفايات، وتشير بيانات وكالة البيئة البريطانية إلى أن العصابات باتت ترى في هذا المجال "فرصة ذهبية منخفضة المخاطر" مقارنة بتجارة المخدرات أو غسل الأموال، إذ تتطلب استثمارات أقل وتواجه احتمالات ضئيلة للملاحقة القانونية.
ويصف خبراء بيئيون هذا التحول بأنه "اقتصاد الظل البيئي"، حيث تُستغل الثغرات القانونية ويغيب التنسيق بين الأجهزة الحكومية لتحقيق أرباح ضخمة من جمع النفايات، حرقها أو دفنها في مواقع مهجورة، أو تصديرها بطريقة غير مشروعة إلى دول نامية.
أمثلة صادمة من قلب الغابات البريطانية
واحدة من أبرز القضايا التي سلط عليها التقرير الضوء كانت في غابة هودز في كينت، وهي منطقة ذات أهمية علمية خاصة، فقد أبلغ السكان السلطات منذ عام 2020 عن أكوام متزايدة من القمامة المنزلية ونفايات البناء، لكن هيئة البيئة لم تصدر أمر تقييد إلا بعد أربع سنوات، حين كانت أكثر من ثلاثين ألف طن من النفايات قد غمرت الغابة بارتفاع تجاوز أربعة أمتار.
المشهد في هودز ليس استثناءً، إذ توثّق الجمعيات المحلية مئات المواقع المشابهة في أنحاء إنجلترا وويلز واسكتلندا، حيث تُترك القمامة لتتحلل وتلوّث المياه الجوفية، أو تُحرق في الهواء الطلق مطلقة غازات سامة تضر بصحة السكان القريبين.
فشل مؤسسي وتراخٍ في الملاحقة
اللوردات وجّهوا انتقادات لاذعة لوكالات البيئة والشرطة على حد سواء في بريطانيا، وجاء في رسالتهم إلى وزيرة البيئة إيما رينولدز أن السلطات فشلت في "متابعة التقارير المتكررة عن جرائم النفايات الخطيرة، واستخدام الصلاحيات المتاحة لوقف الإلقاء الجماعي غير القانوني، أو إجراء ملاحقات قضائية فعالة".
وأضاف التقرير: "أن سجل الملاحقات القضائية الناجحة والعقوبات الأخرى مؤسف".
وتشير أرقام مستقلة إلى أن نسبة القضايا التي تصل إلى المحاكم لا تتجاوز 3 في المئة من إجمالي الجرائم المسجلة، وأن العقوبات غالباً ما تقتصر على غرامات مالية بسيطة لا تردع العصابات التي تحقّق أرباحاً بملايين الجنيهات.
وكالة البيئة ترد: "نحن نواجه الجريمة لا نتواطأ معها"
في مواجهة الانتقادات، قالت وكالة البيئة البريطانية إنها تدرك خطورة الظاهرة وتعمل على مكافحتها، وأوضح متحدث رسمي أن "جرائم النفايات سامة وتلحق أضراراً جسيمة بالناس والبيئة والاقتصاد"، وأضاف أن فرق الوكالة أغلقت في العام الماضي 462 موقعاً غير قانوني، ومنعت تصدير نحو 34 ألف طن من النفايات بشكل غير مشروع.
ومع ذلك، يرى مراقبون أن هذه الأرقام لا تزال متواضعة أمام حجم المشكلة، إذ يُعتقد أن عدد المواقع غير القانونية الفعلية يتجاوز الألف في أنحاء المملكة المتحدة.
الجريمة البيئية تهديد عالمي
تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة لعام 2023 صنّف الجريمة البيئية التي تشمل الاتجار في النفايات السامة وقطع الأشجار غير المشروع والصيد الجائر، واحدة من كبرى أربعة مصادر دخل للجريمة المنظمة على مستوى العالم، بعد المخدرات والأسلحة والبشر.
ووفق التقديرات الدولية، تدر الجريمة البيئية أكثر من 280 مليار دولار سنوياً، وتؤثر بشكل مباشر في حقوق الإنسان في الصحة والبيئة الآمنة.
كما شدد مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة على أن "إلقاء النفايات غير القانوني ليس مجرد مخالفة بيئية، بل جريمة منظمة لها آثار عابرة للحدود"، داعياً الدول إلى تبني آليات دولية لتتبع النفايات من مصدرها إلى وجهتها النهائية.
ضحايا في الظل: الأثر الإنساني للجريمة البيئية
بعيداً عن الأرقام، تمتد تداعيات جرائم النفايات إلى حياة الناس اليومية، وفي بلدات مثل ليتشفيلد وبيرمنغهام يعاني السكان من تلوث الهواء الناجم عن حرق النفايات ليلاً في ضواحي المدن، وتفيد تقارير الجمعيات الصحية المحلية بأن بعض المناطق سجّلت ارتفاعاً في معدلات أمراض الجهاز التنفسي والحساسية بين الأطفال.
تقول إيما لي، وهي ناشطة من منظمة "جرين ووتش" البيئية: "القمامة هنا ليست مجرد أوساخ، إنها سموم تتسلل إلى رئات أطفالنا، وتذكير يومي بأن الجريمة البيئية ليست بعيدة عن بيوتنا".
ثغرات قانونية وتضارب اختصاصات
يؤكد خبراء القانون البيئي أن جزءاً كبيراً من المشكلة يعود إلى تعدد الجهات المعنية وتضارب صلاحياتها، فبين الشرطة المحلية ووكالة البيئة والسلطات البلدية، تضيع مسؤولية المتابعة والمحاسبة.
ويقول المحامي المتخصص في القضايا البيئية جوناثان هاريس إن "البيئة في بريطانيا تخضع لحماية قانونية متقدمة نظرياً، لكن التنفيذ العملي ضعيف للغاية. حين تبلغ عن موقع قمامة غير قانوني، قد تمر شهور قبل أن يتحرك أحد".
مطالب دولية بتشديد الرقابة والعقوبات
المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، ومنها منظمة العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش"، دعت الحكومة البريطانية إلى التعامل مع الجريمة البيئية بوصفها تهديداً أمنياً واقتصادياً، كما طالب مجلس أوروبا بسن تشريعات أكثر صرامة تشمل عقوبات بالسجن على المتورطين في جرائم النفايات المنظمة.
أما الاتحاد الأوروبي، فقد أدرج بريطانيا في تقاريره السنوية عن "مسارات النفايات الخطرة"، محذراً من أن بعض النفايات البريطانية يتم تهريبها إلى دول إفريقية وآسيوية في انتهاك لاتفاقية بازل بشأن نقل النفايات الخطرة والتخلص منها عبر الحدود.
من الخصخصة إلى الفوضى
بدأت جذور الأزمة قبل عقدين، حين خضعت إدارة النفايات في المملكة المتحدة لعمليات خصخصة واسعة قللت من قدرة الدولة على المراقبة المباشرة، وبالتزامن مع ارتفاع رسوم مكبات النفايات، ازدهر "السوق الأسود للنفايات"، حيث يقدم تجار غير مرخصين خدمات أرخص للتخلص من القمامة، فيغري ذلك الشركات الصغيرة والمقاولين باللجوء إليهم.
اليوم، ومع ضغط الأزمة الاقتصادية وارتفاع تكاليف الوقود والطاقة، أصبحت هذه السوق الموازية أكثر نشاطاً، تغذيها عصابات تستغل كل فرصة للربح السريع على حساب البيئة والمجتمع.
رغم اعتراف السلطات البريطانية بالتقصير، لا يزال الطريق طويلاً أمام إصلاح المنظومة، فالرهان الحقيقي، كما تقول منظمات المجتمع المدني، لا يكمن فقط في تشديد العقوبات، بل في بناء ثقافة مساءلة بيئية تعيد الاعتبار لحق الناس في بيئة نظيفة وآمنة.











