ضحايا الألغام.. حقول الزيتون تتحول إلى ساحات موت للأطفال في ريف حماة

ضحايا الألغام.. حقول الزيتون تتحول إلى ساحات موت للأطفال في ريف حماة
منطقة ألغام

في مشهد يلخص قسوة الحرب التي لم تضع أوزارها بعد، اهتزّ ريف حماة الشمالي على وقع مأساة جديدة راح ضحيتها ثمانية أطفال بين شهداء ومصابين، إثر انفجار لغم أرضي من مخلفات الحرب انفجر في إحدى الأراضي الزراعية شمال بلدة قمحانة، وبينما كان الأطفال يعملون مع عدد من العمال في قطف الزيتون، تحول اليوم الاعتيادي إلى كارثة تركت الأهالي في حالة صدمة، وزادت من أوجاع منطقة لم تكف عن دفع ثمن حرب أنهكت البشر والأرض.

تفاصيل الفاجعة

وفق ما أفاد به المرصد السوري لحقوق الإنسان الثلاثاء، فإن أربعة أطفال استشهدوا على الفور، بينما أصيب أربعة آخرون بجروح متفاوتة الخطورة. أعمارهم جميعا تتراوح بين سبعة أعوام وسبعة عشر عاما، وينحدرون من قرى العوجة ورسم البغل وأبو درة في ريف حماة الشمالي، وهؤلاء الأطفال لم يكونوا في مهمة قتالية ولا في منطقة عسكرية، بل كانوا في حقل زيتون يقطفون ثمار موسم تنتظره العائلات كل عام لعلّه يمدها بما يسد رمقها.

انفجار لغم واحد كان كفيلا بإنهاء حياة أربعة أطفال ودفع أربعة آخرين إلى غرف الإسعاف في مشافي المنطقة، بينما بقيت عائلاتهم تمسك بقلوبها خوفا ورعبا، لا لمعرفتها بمصير المصابين فحسب، بل لإدراكها العميق أن الموت يتربص بالأرض التي يعيشون منها.

حقول تتحول إلى مناطق موت

تأتي هذه الحادثة في ظل انتشار واسع للألغام والأجسام غير المنفجرة داخل الأراضي الزراعية في مختلف المناطق السورية، برغم الهدوء النسبي في بعض الجبهات، لا تزال الأرض تفيض بالبقايا القاتلة للسنوات الطويلة من الحرب، ومع غياب خطط جدية لإزالة الألغام، تتحول الحقول التي تعيل عائلات بأكملها إلى ساحة موت لا يمكن التنبؤ بها.

المؤسف أن كثيراً من سكان الريف السوري يباشرون أعمالهم الزراعية اضطرارا لا اختيارا، رغم معرفتهم بالمخاطر، فالمواسم مصدر رزق وحيد لآلاف الأسر التي تعيش على حد الكفاف، وفي ظل تراجع المساعدات الإنسانية وارتفاع تكاليف المعيشة، لم يعد بمقدور العائلات التخلي عن العمل في حقولها، حتى لو كانت هذه الحقول مزروعة بالموت.

حصيلة مفجعة لضحايا مخلفات الحرب

تظهر الأرقام التي وثقها المرصد السوري منذ سقوط النظام في عام 2024 وحتى اليوم، واقعا صادما يعكس حجم الكارثة المستمرة. فقد ارتفع عدد المدنيين الذين استشهدوا نتيجة انفجار الألغام والأجسام غير المنفجرة إلى 660 شخصا، من بينهم 195 طفلا و42 سيدة، هذا الرقم يعكس مأساة عميقة لا تقل بشاعة عن مشاهد القصف والدمار، فهي مأساة تتسلل بصمت إلى الحياة اليومية وتوقع ضحايا في كل مرة دون ضجيج.

وتوزعت هذه الأعداد على مختلف مناطق السيطرة داخل سوريا، ففي مناطق سيطرة حكومة دمشق استشهد ما يزيد على 500 شخص بينهم 25 سيدة ومئة و47 طفلا، ومن بين هؤلاء ثمانية قضوا أثناء جمع الكمأة في ظاهرة تتكرر سنويا وتعرض مئات المدنيين للخطر، أما في مناطق الإدارة الذاتية فقد استشهد 43 مدنيا بينهم 4 سيدات 19 طفلا، بينما سجلت مناطق سيطرة الجيش الوطني شمالي سوريا مقتل 102 من المدنيين بينهم 13 سيدة و29 طفلا.

رغم تفاوت الأرقام من منطقة لأخرى، فإن القاسم المشترك بينها جميعا هو أن الضحايا مدنيون لا علاقة لهم بمواقع الصراع المباشر، فهم أطفال يبحثون عن لعبتهم في باحة البيت، ومزارعون يشقون طريقهم نحو الحقول، ونساء يجمعن النباتات البرية لإعالة أسرهن.

أطفال حماة في قلب المأساة

حادثة ريف حماة الأخيرة لم تكن استثناء في سجل طويل من حوادث مشابهة، لكنها سلطت الضوء من جديد على واقع الأطفال في سوريا الذين يعيشون بين قنابل وألغام غير منفجرة ومنازل مهدمة ومدارس دفعتها الظروف إلى الإغلاق أو التدمير، وهؤلاء الأطفال، الذين كان يفترض أن يقضوا أيامهم في اللعب والدراسة، ينتهي بهم الحال في أعمال زراعية شاقة، أو في مساعدة عائلاتهم على تدبير لقمة العيش، أو في شوارع تفتقر للأمان والخدمات.

كثير من الأطفال في الريف السوري يعملون في الحقول خلال مواسم الزيتون والقمح والكمأة وغيرها من المواسم الزراعية، ومع غياب الرقابة وافتقار المناطق الريفية لبرامج حماية الطفولة، يصبح الأطفال أكثر عرضة لمخاطر مخلفات الحرب التي تنتشر في كل زاوية.

غياب برامج الإزالة وغياب الدولة

بينما تستمر المنظمات الدولية في الدعوة إلى مشاريع واسعة لإزالة الألغام، تبقى الخطوات الميدانية ضئيلة جدا مقارنة بحاجة البلاد، فعمليات إزالة الألغام تتطلب إمكانات ضخمة وفرقاً متخصصة، في حين أن الوضع الاقتصادي والسياسي في سوريا يجعل تنفيذ مشاريع بهذا الحجم أمرا صعبا، ومع غياب التنسيق بين السلطات المختلفة وتعدد مناطق السيطرة، تتضاعف العقبات وتبقى مخلفات الحرب منتشرة في القرى والبلدات دون معالجة حقيقية.

ويؤكد خبراء ميدانيون أن العدد الحقيقي للألغام والمتفجرات غير المنفجرة قد يكون أكبر بكثير من الموثق، خاصة في المناطق التي شهدت معارك عنيفة أو تبدل السيطرة عليها مرات عدة، كما أن العوامل الطبيعية مثل الأمطار والسيول قد تتسبب في نقل الألغام من أماكنها الأصلية إلى مناطق جديدة غير معروفة للسكان.

أصوات الأهالي بين الحزن والغضب

في محيط بلدة قمحانة، سادت حالة من الحزن والغضب بين الأهالي الذين أكدوا أن هذه الحقول شهدت في السنوات الماضية حوادث مشابهة دون أن تحدث استجابة فعلية، ويقول أحد سكان المنطقة إن الناس باتوا يعيشون في خوف دائم، فالأرض التي يزرعونها لم تعد مأمونة، ولا يعرف أحد أين قد يختبئ الموت. ويضيف أن الأطفال يعملون مع ذويهم بسبب الحاجة والفقر، لكن أحدا لا يحميهم ولا يضمن سلامتهم.

في جنازات الأطفال الأربعة الذين استشهدوا، تكررت الصرخة ذاتها على ألسنة ذويهم، لماذا لا تزال هذه الألغام مدفونة في الأرض بعد سنوات من توقف المعارك في المنطقة وما الذي ينتظره المجتمع الدولي حتى يعلن هذا الملف أولوية إنسانية عاجلة.

دعوات للتحرك وإنقاذ ما يمكن إنقاذه

مع كل حادثة جديدة، تتجدد المطالبات بإطلاق برامج حقيقية لإزالة الألغام وتطهير المناطق الزراعية، كما تدعو منظمات حقوقية إلى ضرورة تنفيذ حملات توعية واسعة، تستهدف الأطفال والنساء والمزارعين، لتعريفهم بأنواع المتفجرات ومخاطرها وطرق التعامل معها، لكن هذه الجهود تبقى محدودة جدا في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، واستمرار النزوح الداخلي، وانشغال السكان بتأمين احتياجاتهم الأساسية.

تعد سوريا واحدة من أكثر دول العالم تلوثا بمخلفات الحرب من ألغام وذخائر غير منفجرة، وفق تقديرات الأمم المتحدة، ومنذ عام 2011، شهدت البلاد معارك كثيفة استخدمت فيها مختلف أنواع الأسلحة، وتشير تقارير دولية إلى أن ملايين السوريين يعيشون اليوم في مناطق ملوثة بالألغام، خاصة في الأرياف التي كانت مسرحا للعمليات العسكرية، وبرغم الجهود المحدودة التي تبذلها بعض المنظمات الإنسانية، لا تزال عمليات الإزالة تواجه تحديات كبيرة بسبب نقص التمويل، وتعدد مناطق السيطرة، وصعوبة الوصول إلى كثير من المناطق، وتمثل مخلفات الحرب تهديدا مستمرا للحياة اليومية، وتمنع الأهالي من العودة إلى أراضيهم، وتعوق الزراعة والحركة التجارية، كما تقوض فرص التعافي الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية