ضمن سياسة التضييق.. تراجع حاد في تسوية أوضاع المهاجرين بفرنسا
ضمن سياسة التضييق.. تراجع حاد في تسوية أوضاع المهاجرين بفرنسا
سجلت فرنسا خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري تراجعاً غير مسبوق في عدد تسويات أوضاع المهاجرين غير النظاميين، في مؤشر يعكس تحولاً عميقاً في السياسة الحكومية تجاه الهجرة.
وأظهرت أرقام رسمية كشفت عنها صحيفة لوموند، الثلاثاء، وأكدتها وزارة الداخلية الفرنسية انخفاضاً بنسبة 42 في المئة في عدد بطاقات الإقامة الممنوحة في إطار القبول الاستثنائي للإقامة، وهو المسار الذي ظل لسنوات أحد أبرز أدوات إدماج المهاجرين في المجتمع الفرنسي.
هذا التراجع الحاد لم يأتِ من فراغ، بل جاء في أعقاب تعميم إداري أصدره وزير الداخلية السابق برونو روتايو، أعاد من خلاله رسم حدود أكثر تشدداً لتسوية الأوضاع، ووجّه رسالة واضحة إلى الإدارات المحلية بضرورة التضييق وتقليص هذا المسار إلى الحد الأدنى.
أرقام تعكس التحول
وفق المعطيات الرسمية، منحت السلطات الفرنسية بين يناير وسبتمبر 11012 بطاقة إقامة في إطار القبول الاستثنائي للإقامة، مقارنة بـ19001 بطاقة خلال الفترة نفسها من عام 2024. هذا الفارق العددي الكبير يعكس تشديداً ممنهجاً في التعامل مع ملفات المهاجرين في وضعية غير نظامية، ويؤكد أن التسوية لم تعد خياراً مطروحاً كما في السابق، حتى بالنسبة لأولئك الذين تتوفر لديهم شروط العمل أو الروابط العائلية.
ويرى متابعون أن هذه الأرقام لا تعبر فقط عن سياسة إدارية أكثر صرامة، بل عن توجه سياسي أوسع يسعى إلى تقليص الهجرة غير النظامية عبر الردع بدل الإدماج، حتى إن كان الثمن ارتفاع الهشاشة الاجتماعية لفئات واسعة من العمال.
منذ يناير طلب برونو روتايو من المحافظين تشديد القيود على تسوية أوضاع المهاجرين غير النظاميين، ومنهم الأشخاص الذين يعملون بشكل مستقر أو لديهم عائلات داخل فرنسا، وأعاد هذا التعميم صياغة الإطار العملي للتسوية، وألغى تعميم فالس المعمول به منذ 2012، والذي كان يعد أكثر وضوحاً وانفتاحاً في تحديد المعايير.
التعميم الجديد ربط القبول الاستثنائي للإقامة بشروط صارمة، منها الإقامة في فرنسا لمدة لا تقل عن 7 سنوات، وإثبات مستوى كافٍ في اللغة الفرنسية، وعدم وجود أي تهديد للنظام العام، إضافة إلى غياب أي قرار سابق بمغادرة الأراضي الفرنسية، كما شدد بشكل واضح على أن تسوية الأوضاع يجب أن تبقى مساراً استثنائياً لا قاعدة عامة.
تراجع في معظم الفئات
الأرقام تظهر أن هذا التراجع طال تقريباً جميع فئات التسوية، فقد انخفض عدد بطاقات الإقامة الممنوحة لأسباب اقتصادية إلى 2653 بطاقة، أي بتراجع بلغ 54 في المئة، كما تراجعت التسويات المرتبطة بالحياة الخاصة والعائلية بنسبة 58 في المئة، لتسجل أقل من 4000 بطاقة خلال الفترة نفسها.
هذا الانخفاض يعكس تضييقاً متزايداً حتى على الفئات التي كانت تعد في السابق أكثر قابلية للتسوية، مثل العمال الذين يشغلون وظائف مستقرة أو الآباء والأمهات المرتبطين بعائلات مستقرة داخل فرنسا.
الفئة الوحيدة التي سجلت ارتفاعاً طفيفاً هي فئة القصر غير المصحوبين سابقاً الذين بلغوا سن الرشد ويتابعون تكويناً مهنياً، فقد ارتفع عدد بطاقات الإقامة الممنوحة لهم بنسبة 12 في المئة، من 3081 إلى 3454 بطاقة، ويرى مراقبون أن هذا الاستثناء يعكس رغبة الدولة في تجنب انتقادات حقوقية تتعلق بمصير هذه الفئة الهشة، دون أن يعني ذلك تغييراً حقيقياً في النهج العام.
في المقابل بقي المسار الخاص بتسوية أوضاع العاملين في المهن التي تعاني من نقص في اليد العاملة محدوداً للغاية، فعلى الرغم من إدراجه في قانون الهجرة لسنة 2024، لم يمنح خلال الأشهر التسعة الأولى سوى 666 بطاقة إقامة على هذا الأساس، ولم يتجاوز العدد 702 بطاقة خلال الأشهر العشرة الأولى من السنة.
قائمة لا تعكس سوق العمل
ينتقد فاعلون نقابيون واقتصاديون قائمة المهن التي تعاني من نقص في اليد العاملة، والتي نشرت بمرسوم في مايو وجرى توزيعها حسب المناطق، ويرون أن هذه القائمة لا تعكس الواقع الفعلي لسوق العمل الفرنسي، فمثلاً لا يرد قطاع التنظيف ضمن قائمة منطقة إيل دو فرانس رغم اعتماده الكبير على يد عاملة مهاجرة غير نظامية، ما يحرم آلاف العمال من إمكانية تسوية أوضاعهم.
هذا الخلل بين النص والواقع يزيد من الشعور باللاعدالة لدى المهاجرين، ويكرس فجوة بين حاجات الاقتصاد من جهة، والسياسات الإدارية من جهة أخرى.
حتى في الحالات التي يستوفي فيها المهاجرون الشروط المعلنة، تبقى تسوية الأوضاع خاضعة للسلطة التقديرية للمحافظين، ما يجعل نتائج الملفات غير متوقعة، ويؤكد مسؤولون محليون أن تعميم روتايو لم يغير النصوص القانونية بشكل جذري، لكنه خلق مناخاً عاماً شديد الانغلاق، ووجه إشارة سياسية واضحة مفادها أن التسوية لم تعد مرغوبة.
هذا المناخ جعل تقديم طلب التسوية أشبه بمغامرة غير محسوبة العواقب، حيث يمكن لملف يبدو مستوفياً للشروط أن ينتهي بقرار رفض وما يترتب عليه من تبعات قانونية ثقيلة.
في بعض الأقاليم جرى التعامل مع تراجع أعداد التسوية باعتباره إنجازاً، ففي إقليم أو دو سين سجل انخفاض بنسبة 62 في المئة، من 395 حالة في 2024 إلى 149 حالة فقط بحلول الأول من نوفمبر، وأرجع المحافظ الحالي هذا التراجع إلى التطبيق الصارم للتعميم واعتماد قراءة متشددة للملفات.
مخاوف حقوقية متزايدة
منظمات حقوقية ونقابية حذرت من تداعيات هذا النهج، معتبرة أن المعايير الجديدة غامضة إلى حد يجعل من الصعب حتى نصح المهاجرين بتقديم طلبات تسوية، فالمخاطر باتت مرتفعة، خاصة مع اقتران أي رفض بقرار مغادرة الأراضي الفرنسية بشكل شبه تلقائي.
ويزداد القلق مع ما ينص عليه قانون الهجرة لسنة 2024 من تمديد صلاحية قرار مغادرة الأراضي من سنة واحدة إلى 3 سنوات، ما يضاعف أثر الرفض في حياة المهاجرين المهنية والاجتماعية، ويدفع كثيرين إلى تفضيل البقاء في وضع غير نظامي بدل المجازفة.
وتكشف هذه الأرقام والسياسات عن توجه فرنسي واضح نحو الردع وتقليص مسارات التسوية، في وقت تحذر فيه جمعيات دعم الأجانب وأطراف اقتصادية من نتائج عكسية محتملة، فبدل إدماج العمال في إطار قانوني مستقر، قد تدفع هذه السياسة مزيداً منهم إلى العمل غير المصرح به، وتعمق الهشاشة والاستغلال.
عرفت فرنسا منذ عام 2012 إطاراً تنظيمياً لتسوية أوضاع المهاجرين غير النظاميين عبر القبول الاستثنائي للإقامة الذي أتاح لآلاف الأشخاص الحصول على بطاقات إقامة بناء على العمل أو الروابط العائلية، غير أن هذا المسار ظل محل جدل سياسي مستمر، خاصة مع تصاعد الخطاب المتشدد حول الهجرة.
ومع اعتماد قانون الهجرة لسنة 2024 وتعميمات وزارة الداخلية اللاحقة، دخلت السياسة الفرنسية مرحلة أكثر صرامة، تقوم على تقليص الاستثناءات وتشديد الرقابة الإدارية، ويرى مراقبون أن مستقبل هذا المسار سيظل مرتبطاً بالتوازن بين متطلبات الأمن والسيادة من جهة، والحاجات الاقتصادية والاعتبارات الإنسانية من جهة أخرى، في ملف يزداد تعقيداً وحساسية داخل المجتمع الفرنسي.










