خبراء: إعادة التأهيل البيئي في غزة يتطلب تكاتفاً دولياً لرفع الحصار أولاً
غزة المحاصرة "1"
في قلب الصمود والعزيمة، تكمن قصة أراضٍ تم الاستيلاء عليها بالقوة، تعاني من جراح عميقة في أرض لا تعرف الحدود، تحكي الأرض الحزينة بقطاع غزة عن تأثير الحصار القاسي على بيئته، حيث يتسرب الألم والتدهور إلى كل جزء منها.
في غزة، تتعرض الطبيعة للتلوث والتدمير المستمر، تدفق المياه العذبة يُعتبر تحدًيا يوميًا، حيث تعاني الآبار ونظام الصرف الصحي من الانهيار الذي يهدد صحة وسلامة السكان.
تتكدس النفايات في الشوارع والأراضي الزراعية، فتتحول الأماكن الخضراء الجميلة إلى مناظر محزنة تشهد على الإهمال والتقصير، لم يعد البحر الأزرق المحيط بغزة ملاذًا للسكان، بل تحول إلى مصدر للكوارث البيئية، تلوث المياه البحرية بالمخلفات الصناعية والزيوت الثقيلة يهدد الأحياء البحرية الثمينة والمتنوعة التي كانت موئلاً للحياة البحرية.
يتجاهل العالم آثار هذا التلوث الخطير، حيث ينهار نظام الاستدامة البيئية وتتلاشى موارد الصيد التي يعتاش عليها الصيادون وعائلاتهم، ما يزيد من حدة المعاناة والفقر.
التلوث الجوي يزداد يومًا بعد يوم في ظل انعدام الصيانة والتحديات الاقتصادية.. تتصاعد أعمدة الدخان السوداء من المصانع المتهالكة والمولدات الكهربائية المعتمدة على الوقود الأحفوري، ملوثة الهواء الذي يتنفسه الأطفال والكبار على حد سواء.. تزداد الحالات المرضية وتنخفض جودة الحياة، مع حرمان الأجيال القادمة من الهواء النقي والبيئة الصحية.
لكل ما سبق وغيره، يكسو الحزن واليأس الوجوه والأرض في غزة، حيث يعاني السكان من الحصار الذي يستمر منذ سنوات، ما يحرمهم من الفرصة لإصلاح وإعادة بناء بيئتهم المتضررة.
في إطار الرد الإسرائيلي على هجوم حماس، أصدر وزير الدفاع الإسرائيلي أوامره بفرض "حصار كامل" في التاسع من أكتوبر الجاري، قائلا: "لن يكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا وقود، كل شيء سيغلق".
وأصدر وزير البُنى التحتية في إسرائيل أيضا تعليمات بقطع مياه الشرب عن القطاع.
وأدت هذه التحركات إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية -التي كانت تشهد تدهورا كبيرا بالفعل- في غزة، إذ كان 80 في المئة من سكان القطاع يحتاجون إلى مساعدات دولية قبل اندلاع هذه الحرب.
ويبلغ طول قطاع غزة، الذي يُقدر عدد سكانه بحوالي 2.2 مليون نسمة، 41 كيلومترا وعرضه 10 كيلومترات، وهو جيب محاط بالبحر الأبيض المتوسط ومصر وإسرائيل.
وكانت مصر تسيطر على القطاع حتى سيطرت إسرائيل عليه بعد حرب 1967.
بعد ذلك، سحبت إسرائيل قواتها أيضا عام 2005، إذ كانت تنشر حوالي 7000 من قواتها في القطاع حتى ذلك التاريخ.
وتخضع غزة في الوقت الراهن لسيطرة حركة حماس بعد أن تعرضت العلاقة بينها وبين السلطة الفلسطينية لانقسام شديد، رفضت بعده التبعية للسلطة في 2007.
ومنذ ذلك الحين، وضعت مصر وإسرائيل قيودا صارمة على حركة السلع والأشخاص من وإلى القطاع وذلك لـ"أسباب أمنية" حسب ما يقوله الطرفان.
عن الحصار وآثاره المدمرة على مختلف المجالات والقطاعات، تناقش "جسور بوست"، الوضع تحت عنوان "غزة المحاصرة"، في مجموعة تقارير مع خبراء ومتخصصين.
أثر الحصار على البيئة
حقيقة لا يمكن تغافلها، وهي أن سكان قطاع غزة وفلسطين يعيشون حالة من اليأس والفقر المدقع، حيث يجتاح الحصار القاسي الذي يفرض عليهما البيئة المحيطة بينما يتلاشى الأمل.
تتسبب القيود الصارمة والحصار الاقتصادي في تدهور سريع للبيئة، ما يهدد بتداعيات كارثية على الصحة العامة والحياة البيولوجية في المنطقة.
ومنذ بداية التصعيد في أول أكتوبر الجاري، ألحقت الغارات الجوية الإسرائيلية أضرارًا بسبعة مرافق للمياه والصرف الصحي والنظافة في شمال غزة، والتي كانت توفر في السابق خدمات المياه والصرف الصحي لأكثر من مليون شخص (أي ما يعني أن نصف عدد السكان تقريبًا بلا مياه أو خدمات صرف صحي).
وفي بيت لاهيا وبقية المنطقة الشمالية، تتراكم مياه الصرف الصحي والنفايات الصلبة في الشوارع، بسبب الأضرار التي لحقت بخطوط الصرف الصحي والبنية التحتية.
وقد وثّقت منظمة الصحة العالمية 48 هجمة على مرافق صحية داخل القطاع، تم تسجيلها في نظام مراقبة الهجمات على مرافق الرعاية الصحية التابع لمنظمة الصحة العالمية.
وفقًا للأرقام الرسمية والبيانات الصادرة عن المنظمات المعنية، تعاني موارد المياه في قطاع غزة من أزمة حادة، ويعتبر الحصار السبب الرئيسي وراء نقص إمدادات المياه العذبة، حيث يعاني السكان من شح الحصص المائية وتلوث المصادر المائية الجوفية والبحرية.
المحطات المعالجة لا تستطيع التعامل مع حجم الطلب وتفتقر إلى التمويل والمعدات اللازمة للحفاظ على جودة المياه، وباتت المياه الملوثة تتسرب إلى الأراضي الزراعية وتهدد الصحة العامة بانتقال الأمراض والتسمم.
وعلى صعيد الصرف الصحي، تعاني البنية التحتية في قطاع غزة وفلسطين من نقص كبير، والصرف الصحي الملوث يتسرب إلى المصادر المائية والأراضي الزراعية، ما يزيد من خطر الأمراض المنقولة بالمياه ويهدد الصحة العامة بشكل خطير.
وفي ظل الحصار المستمر، تتفاقم مشكلة التلوث في قطاع غزة وفلسطين، فيعاني القطاع الصناعي من نقص المواد الأولية والمعدات، ما يجبر العديد من المصانع على التشغيل بطاقة محدودة أو الإغلاق بشكل نهائي.
ويؤدي هذا إلى زيادة التلوث الهوائي والتربة، حيث تتراكم النفايات والملوثات بدون إجراءات مناسبة للتخلص منها.
ووفقًا لتقارير إعلامية، توقفت محطة الطاقة الوحيدة في غزة بعد أن نفد ما لديها من وقود في 11 أكتوبر، وهو ما اضطر المستشفيات -التي تعج بالمصابين- للاعتماد على مولدات الطاقة الاحتياطية.
وقد ينفد الوقود اللازم لتشغيل مولدات الطوارئ من بعض المستشفيات التي ليس لديها مخزون كافٍ منه.
ويعاني حوالي 600 ألف شخص من نقص حاد في إمدادات مياه الشرب جراء القرار بقطع المياه.
وتحتاج مضخات المياه المحلية وشبكات الصرف الصحي للوقود من أجل تشغيلها.
ويؤدي إغلاق معبر كرم أبو سالم للسلع مع إسرائيل إلى نضوب المخزونات في المتاجر، وهو ما يتضح في التقارير التي تشير إلى أن ثلثي المتاجر في القطاع تعاني من نقص السلع.
ووفقًا لتقارير إعلامية، تقول الأمم المتحدة إن أغلب المتاجر لديها مواد غذائية تكفي لأسبوعين.
وحتى قبل تجدد الصراع هذه المرة، كان انقطاع التيار الكهربائي من الأحداث العادية في الحياة اليومية، إذ يتم توفير الكهرباء للأسر لمدة 13 ساعة يوميا، وفقا للأمم المتحدة.
وكانت غزة تشتري ثلثي إمدادات الكهرباء من إسرائيل، بينما تعتمد في الثلث الباقي على المحطة الوحيدة في القطاع، رغم ذلك، كان إجمالي إمدادات الطاقة يكفي فقط لأقل من نصف الطلب في القطاع.
وكانت الأسر وموردي الطاقة الكهربائية يعتمدون على مولدات الطوارئ في التكيف مع انقطاع الكهرباء، لكن هذه المولدات لا يمكن الاعتماد عليها بشكل أساسي لندرة الوقود وقطع الغيار التي تعتمد عليها للتشغيل، نظرا لخضوعها لنفس القيود التي تفرضها إسرائيل على الواردات التي تدخل إلى القطاع، لأن إسرائيل تصنفها على أنها سلع "ذات استخدام مزدوج"، أي لها استخدامات مدنية وعسكرية.
للتخفيف من آثار الحصار
وقال أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية، الدكتور جمال القليوبي، إن آثار الحصار على قطاع غزة مدمرة وممتدة وشاملة لكل المجالات، ومنها البيئي والذي بدوره ينعكس على الاقتصاد وباقي القطاعات، وللتخفيف من تأثير الحصار على البيئة في قطاع غزة وفلسطين، يمكن اتخاذ عدة تدابير لإنقاذ الموقف، أولها رفع الحصار ورفع القيود الاقتصادية، يجب أن تبذل الجهود الدبلوماسية والسياسية للعمل على رفع الحصار المفروض على قطاع غزة وفلسطين، وتخفيف القيود الاقتصادية التي تعيق التنمية المستدامة وتؤثر سلباً على البيئة.
وأضاف في تصريحات لـ"جسور بوست"، أنه يجب تعزيز الاستثمار في البنية التحتية البيئية وتطوير مشاريع تعزز الاستدامة البيئية، مثل محطات معالجة مياه الصرف الصحي الحديثة ومحطات توليد الطاقة المتجددة، كذلك تعزيز جهود إدارة المياه وتحسين كفاءة استخدامها، وتوفير الأموال اللازمة لتحديث وصيانة البنية التحتية للمياه، وزيادة الطاقة الإنتاجية للمحطات المعالجة.
وقال إنه من الضروري القيام بحملات توعوية وتثقيفية تستهدف السكان المحليين والشباب بشأن أهمية الحفاظ على البيئة وتأثير الحصار عليها، وتشجيع استخدام الممارسات البيئية المستدامة في الحياة اليومية، على أن تتعاون الحكومة المحلية والمؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية لتوفير الدعم المالي والتقني لتنفيذ مشاريع بيئية مستدامة وتعزيز قدرات البنية التحتية البيئية.
واستطرد، لا ننسى إعادة التأهيل البيئي، ويعني هذا وجوب العمل على إعادة التأهيل البيئي للمناطق المتضررة، بما في ذلك تنظيف المصادر المائية الملوثة وتجديد الأراضي الزراعية المتضررة وإعادة التشجير والتنويع البيولوجي، ولتحقيق هذه التدابير يتطلب الأمر التزاما دوليا شاملا برفع الحصار والعمل على تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، بالإضافة إلى تعاون الجهات المعنية المحلية والدولية لتوفير الدعم والموارد اللازمة.
الدكتور جمال القليوبي
مشاريع وبادرة أمل
بدوره، علق الخبير البيئي، الدكتور البيلي حطب، بقوله، إن الأمل لا يزال موجودا، وبالعمل والمشاريع الجادة يمكننا إنقاذ غزة، وهناك العديد من المشاريع البيئية المستدامة التي يمكن تنفيذها في قطاع غزة وفلسطين، مثل محطات معالجة مياه الصرف الصحي، ويمكن بناء وتطوير محطات معالجة مياه الصرف الصحي الحديثة لتنقية المياه الملوثة واستخدامها في الزراعة أو في غرس الحدائق العامة، ويمكن أيضًا استخدام الطاقة المتولدة من هذه المحطات لتوليد الكهرباء، وتنفيذ مشاريع لتوليد الكهرباء باستخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتوفير مصادر طاقة نظيفة ومستدامة.
وأضاف في تصريحات لـ"جسور بوست"، مصر لن تتوانى عن مساندة الأشقاء في غزة، ويمكننا تنفيذ مشاريع إدارة النفايات المستدامة، مثل إنشاء مراكز لفرز وتدوير النفايات وتحويلها إلى مواد قابلة لإعادة الاستخدام، ويمكن أيضًا بناء محطات لتوليد الطاقة من النفايات العضوية عبر عمليات الهضم اللاهوائي أو التخمير، وتعزيز المزارع العضوية واعتماد الأنظمة الزراعية المستدامة التي تقلل من استخدام المبيدات الكيميائية والأسمدة الاصطناعية، وتشجيع التقنيات المبتكرة مثل الزراعة العمودية والهيدروبونيكس لزيادة إنتاجية المحاصيل بكفاءة مستدامة.
وطالب البيلي المجتمع الدولي بضرورة التعاون مع غزة لتنفيذ المشاريع البيئية في قطاع غزة وفلسطين، يمكن للمجتمع المحلي التعاون مع السلطات المحلية والبلديات لتنفيذ المشاريع البيئية، ويمكن أن توفر الحكومة المحلية التمويل والدعم التقني، وتكون المنظمة المسؤولة عن تنسيق وتنفيذ المشروع، وهناك العديد من المنظمات غير الحكومية المعنية بحماية البيئة والتنمية المستدامة.
الدكتور البيلي حطب
وأتم، يمكن للمجتمع المحلي التعاون مع هذه المنظمات للحصول على الدعم التقني والمالي والخبرة في تنفيذ المشاريع البيئية، كذلك التعاون مع الجامعات والمؤسسات البحثية للحصول على الدعم العلمي والتقني في تنفيذ المشاريع البيئية، ويمكن للمجتمع المحلي التعاون مع المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة والوكالات الإنمائية الدولية والمؤسسات المالية الدولية، وتعتبر شراكة وتعاون الجهود بين هذه الجهات أمراً مهماً لضمان نجاح واستدامة المشاريع البيئية في قطاع غزة وفلسطين بأكملها.