بعد قرار المحكمة الأوروبية.. من يتحمل مسؤولية انتهاكات حقوق الإنسان في أوكرانيا؟

بعد قرار المحكمة الأوروبية.. من يتحمل مسؤولية انتهاكات حقوق الإنسان في أوكرانيا؟
المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR)

بينما تطوي أوكرانيا كل يوم صفحة في صراع دموي لم تنطفئ نيرانه منذ الغزو الروسي الشامل في فبراير 2022، يظل سؤال من يتحمل المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان؟ مطروحًا بإلحاح يتجاوز السجالات السياسية ليبلغ جوهر المأساة الإنسانية التي يعيشها الملايين، في قرار حديث صادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ECHR) وضعت المحكمة خطوطًا قانونية صارمة، محمّلة روسيا رسميًا المسؤولية عن سلسلة طويلة من الجرائم والانتهاكات المنهجية منذ 2014 وحتى انسحابها من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في سبتمبر 2022.

لكن خلف هذا القرار، تتكشف طبقات أعمق من الإهمال والصمت الدولي والتساؤل حول جدوى المحاسبة أمام آلة حرب لا تعترف بالقانون، وعن مصير الضحايا في رحلة البحث الطويلة عن العدالة.

حكم تاريخي ورسالة قوية

في سابقة تاريخية، أصدرت الدائرة الكبرى للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكمًا مؤلفًا من نحو 500 صفحة، بعد دمج أربع قضايا رئيسية هي: سلوك روسيا أثناء احتلالها شرق أوكرانيا، وإسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية الرحلة MH17 في يوليو 2014، ثم الغزو الشامل في 2022، وجدت المحكمة أن روسيا مارست سيطرة فعلية على الأراضي المحتلة، وبالتالي تتحمل المسؤولية القانونية المباشرة عن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها قواتها النظامية ووكلاؤها.

تنوّعت تلك الانتهاكات بين القصف العشوائي للمناطق السكنية، والإعدامات الميدانية، والاحتجاز التعسفي والتعذيب، والعمل القسري، والعنف الجنسي المُستخدم كسلاح حرب. 

ولعل أكثر ما هزّ الضمير الإنساني هو استخدام الاغتصاب بشكل ممنهج لنزع الصفة الإنسانية عن الشعب الأوكراني وإذلاله، حسب نص الحكم.

وحملت المحكمة روسيا مسؤولية النقل القسري للأطفال الأوكرانيين إلى أراضيها وتبنّيهم قسرًا، إلى جانب قمع اللغة والثقافة الأوكرانية والتضييق على حرية المعتقد والتعبير الديني.

جريمة عابرة للحدود

أحد الجوانب المفصلية في الحكم كان تحميل روسيا مسؤولية إسقاط الرحلة MH17، التي أودت بحياة 298 شخصًا، معظمهم من الهولنديين، عبر صاروخ أُطلق من مناطق يسيطر عليها الانفصاليون الموالون لموسكو، أدانت المحكمة روسيا لفشلها في منع إطلاق الصاروخ، ولعرقلتها التحقيقات الدولية، ما اعتُبر معاملة لاإنسانية إضافية بحق أسر الضحايا، طبقًا للمادة الثالثة من الاتفاقية.

هذا الجزء من الحكم يحمل بُعدًا يتجاوز النزاع الأوكراني الداخلي، إذ يُعيد التذكير بمسؤولية الدول في حماية المدنيين وضمان الشفافية والمحاسبة في الجرائم العابرة للحدود.

ورحبت كييف بالحكم واعتبرته تاريخيًا، وأكدت وزارة العدل الأوكرانية أنه خطوة كبرى في سبيل تحقيق العدالة، من جانبه، وصف الخبير القانوني روبرت سبانو الحكم بأنه أحد أعظم الأحكام في تاريخ المحكمة، وأشار الدكتور مارك إليس، المدير التنفيذي لرابطة المحامين الدولية، إلى أنه يمثل انتصارًا قانونيًا وأخلاقيًا لأوكرانيا، ويُعزز أولوية مبدأ المساءلة حتى في مواجهة دول قوية مثل روسيا.

في المقابل، تجاهلت موسكو الحكم، ورفضت التعاون أو الاعتراف بقرارات المحكمة منذ طردها من مجلس أوروبا، معتبرة القرار باطلًا ولاغيًا، لكن المحكمة اعتبرت هذا الرفض في حد ذاته خرقًا إضافيًا للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

انتهاكات وأرقام صادمة

بعيدًا عن صفحات الأحكام، تكشف الأرقام حجم المأساة فوفقًا لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، أسفر النزاع في أوكرانيا عن مقتل أكثر من 10 آلاف مدني منذ فبراير 2022، بينهم مئات الأطفال، وإصابة عشرات الآلاف، وتشير تقارير "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية - أمنيستي" إلى وجود أنماط متكررة من الانتهاكات، مثل التعذيب في مراكز الاحتجاز، والإخفاء القسري، واستخدام العنف الجنسي، خاصة في المناطق التي سيطرت عليها القوات الروسية أو قوات تدعمها.

منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) حذرت كذلك من أن أكثر من 1.5 مليون طفل في أوكرانيا مهددون بآثار نفسية طويلة الأمد نتيجة النزوح والعنف المباشر، فضلاً عن الانقطاع عن التعليم والخدمات الأساسية.

مسؤولية مضاعفة وتحديات

يرى خبراء أن تحميل روسيا المسؤولية لا يلغي وجود مسؤوليات على أطراف أخرى أيضًا، مثل جماعات مسلحة موالية لموسكو ارتكبت جرائم ميدانية، بل وحتى بعض الانتهاكات الفردية التي قد تُنسب إلى القوات الأوكرانية.

ومع ذلك، يظل الفارق كبيرًا: فالحكم الأخير أكد أن الانتهاكات الروسية لم تكن مجرد تجاوزات فردية، بل جزءًا من سياسة منظمة لاستخدام العنف كسلاح لإخضاع الشعب الأوكراني.

لكن السؤال الأهم.. كيف تُنفذ هذه الأحكام عمليًا في ظل رفض روسيا التعاون؟ بحسب المادة 46 من الاتفاقية، أُمرت موسكو بالإفراج عن المحتجزين الأوكرانيين وإعادة الأطفال المرحّلين.

كما ينتظر أن تُناقش المرحلة التالية مسألة التعويضات المالية وجبر الضرر، بالتوازي مع مشروع «سجل الأضرار» لمجلس أوروبا الذي يهدف لتوثيق الخسائر تمهيدًا للتعويض.

نزاع معقد الجذور

لإدراك عمق الأزمة، لا بد من العودة إلى عام 2014 حين ضمت روسيا شبه جزيرة القرم عقب احتجاجات الميدان في كييف وسقوط الرئيس الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش، تبع ذلك دعم روسي واسع لانفصاليين في دونيتسك ولوغانسك شرق أوكرانيا، لتدخل البلاد في نزاع دموي أودى بحياة نحو 14 ألف شخص حتى قبل الغزو الشامل في 2022.

مع اندلاع الحرب الأخيرة، تضاعفت الانتهاكات، وأضحت أكثر اتساعًا ووحشية، في مشهد يعيد إلى الأذهان أسوأ أزمات الحروب الحديثة في البوسنة وسوريا.

وفي جوهر هذه القضية يظل مصير الضحايا محورًا إنسانيًا لا يجب أن يُنسى وسط التعقيدات القانونية والسياسية، فبالنسبة لعائلات الرحلة MH17، الحكم يُعطي اعترافًا رسميًا بمعاناتهم، أما آلاف الأسر الأوكرانية التي فقدت أحبّتها أو تعرضت للنزوح والتهجير فتبحث في كل سطر من هذه الأحكام عن بصيص أمل بأن الجرائم لن تمر دون عقاب.

مسؤولية قانونية وأخلاقية

الحكم التاريخي للمحكمة الأوروبية يعيد التأكيد أن انتهاكات حقوق الإنسان ليست مجرد أرقام أو عناوين إخبارية، بل هي قصص أمهات ثُكلى وأطفال نزحوا ومدن دُمرت، يثبت أيضًا أن القانون الدولي لا يزال أداة مهمة –وإن كانت بطيئة ومعقدة– لإعلاء صوت الضحايا في مواجهة القوة الغاشمة.

وفي النهاية، يبقى طريق العدالة طويلاً وشاقًا، لكن الأهم أن هناك من يواصل المطالبة بها، كي لا يكون الألم بلا معنى، ولا تُنسى معاناة الناس خلف الأرقام والخرائط.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية