صرخات وسط الدمار.. العنف يطارد الأطفال في زمن الحروب
صرخات وسط الدمار.. العنف يطارد الأطفال في زمن الحروب
يعاني الأطفال في مختلف أنحاء العالم من أشكال متعددة للعنف، نتيجة للفقر، والنزاعات المسلحة، وتغير المناخ، وهي ظواهر تتشابك معًا لتولد دائرة من المعاناة التي تمتد لتشمل جوانب جسدية، ونفسية، واجتماعية.
حذّرت الممثلة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالعنف ضد الأطفال، الدكتورة نجاة معلا مجيد، من تصاعد موجة العنف ضد الأطفال على مستوى العالم، في تقريرها الأخير للأمم المتحدة، موضحة أن الحروب، وتغير المناخ، والجوع، والنزوح القسري، أمور تسهم جميعًا في خلق بيئة عنيفة وغير آمنة للأطفال.
وأشارت إلى أن "الأطفال ليسوا مسؤولين عن الحرب، هم ليسوا مسؤولين عن أزمة المناخ، ومع ذلك، هم يدفعون الثمن الباهظ لهذه الأزمات"، ووصفت الوضع بأنه وصل إلى مستويات غير مسبوقة من العنف الوحشي ضد الأطفال، مضيفةً أن التكنولوجيا الحديثة تلعب دورًا سلبيًا في تسهيل استغلال الأطفال وارتكاب الجرائم بحقهم.
ويظهر تقرير الأمم المتحدة مدى انتشار هذا العنف، حيث أشار إلى أن أكثر من 450 مليون طفل يعيشون في مناطق تشهد نزاعات مسلحة حتى نهاية عام 2022، من هؤلاء الأطفال، يشكل النازحون نسبة كبيرة، إذ إن 40% من النازحين البالغ عددهم 120 مليونًا حتى نهاية أبريل كانوا من الأطفال. في الوقت ذاته، يعاني 333 مليون طفل من الفقر المدقع، ما يعني أنهم يفتقرون إلى الضروريات الأساسية للحياة، مثل الغذاء، والتعليم، والرعاية الصحية.
الأرقام الصادمة ليست محصورة فقط في السياقات العامة، بل تمتد لتشمل تفاصيل مروعة عن أماكن محددة، على سبيل المثال، في عام واحد، قتلت إسرائيل أكثر من 15 ألف طفل فلسطيني في عدوانها على قطاع غزة، بالإضافة إلى هذه الأعداد، تعاني مناطق أخرى من الشرق الأوسط من العنف المستمر ضد الأطفال، كما هو الحال في سوريا واليمن، حيث تدمر الحرب حياة الأطفال ومستقبلهم، وهذا يشمل الهجمات على المدارس والمستشفيات، ما يحرم الأطفال من حقهم في التعليم والرعاية الصحية، ويدفعهم إلى دخول دوامة من الجهل والفقر المستمر.
وإلى جانب العنف المباشر الذي يتعرض له الأطفال في مناطق النزاع، يتفاقم الوضع بسبب تغير المناخ، فالأطفال الذين يعيشون في الدول النامية، حيث يتفاقم الفقر بسبب تأثيرات المناخ مثل الجفاف والفيضانات، يكونون أكثر عرضة لسوء التغذية والأمراض الناتجة عن هذه التغيرات.
ووفقًا لتقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، يعاني حوالي 1.8 مليار طفل حول العالم من تداعيات أزمة المناخ، سواء من خلال الفقر الذي يزيد من هشاشتهم أو من خلال التغيرات البيئية التي تفرض تحديات جديدة على حياتهم اليومية.
ويعتبر الجوع عاملا آخر يؤدي إلى زيادة العنف ضد الأطفال، في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، يعاني الأطفال من سوء التغذية بمعدلات مرتفعة، حيث يُقدر أن 20% من الأطفال تحت سن الخامسة يعانون من التقزم بسبب نقص التغذية، هذا النقص في الغذاء يدفع العائلات إلى اتخاذ قرارات صعبة، مثل إرسال الأطفال للعمل بدلاً من التعليم، ما يعرضهم لخطر الاستغلال والعنف.
على الصعيد النفسي، تتزايد حالات الانتحار بين الأطفال نتيجة لما يتعرضون له من عنف وإهمال. في عام 2020، كانت الانتحارات بين الشباب دون سن الـ18 تشكل 12.1% من الوفيات العالمية لهذه الفئة العمرية، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
ويساهم العنف المنزلي، الذي يزيد بسبب الضغوط الاقتصادية والنزاعات المسلحة، في خلق بيئة من اليأس والإحباط لدى الأطفال، ما يدفع بعضهم إلى اللجوء للانتحار كحل للهروب من الواقع المرير، التكنولوجيا الحديثة، التي كان يُفترض أن تسهم في تحسين حياة الأطفال، أصبحت سلاحًا ذا حدين، ومع ازدياد استخدام الأطفال للإنترنت، يتعرضون بشكل متزايد للجرائم الإلكترونية والاستغلال الجنسي عبر الإنترنت، ووفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، تم استغلال أكثر من 300 مليون طفل عبر الإنترنت في العام الماضي فقط، ما يشير إلى ضرورة اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لحماية الأطفال في الفضاء الرقمي.
ويرى حقوقيون أن إنهاء العنف ضد الأطفال ليس فقط ضرورة إنسانية، بل هو أيضًا استثمار منطقي على المستوى الاقتصادي، فوقف العنف ضد الأطفال يوفر موارد ضخمة يمكن استخدامها في تطوير المجتمعات وتحسين مستقبلها. ومع ذلك، تبقى المشكلة في تنفيذ الحلول على نطاق واسع ودعم المبادرات القائمة بشكل فعال.
حالات انتحار مأساوية
على مر العقود، كانت هناك العديد من الحالات التي سلطت الضوء على العنف الموجه ضد الأطفال، والذي أدى في بعض الحالات إلى نهايات مأساوية، بما في ذلك حالات انتحار مؤلمة.
واحدة من أبرز الحالات كانت تلك التي تتعلق بطفل في الولايات المتحدة الأمريكية يُدعى غابرييل، الذي تعرض لعنف أسري متواصل وصل إلى حد الاعتداء الجسدي والنفسي بشكل متكرر، وعلى الرغم من محاولات العديد من الأشخاص التدخل وحماية الطفل، فإن غابرييل فقد حياته نتيجة هذا العنف.
لم تكن حالته مجرد مأساة فردية، بل أشعلت موجة من الغضب العام، وفتحت الباب أمام تساؤلات عميقة حول فاعلية نظام حماية الأطفال ومدى قدرة المجتمعات على توفير بيئة آمنة لهم.
في منطقة الشرق الأوسط، كان الأطفال الفلسطينيون ولا يزالون من أبرز ضحايا العنف المرتبط بالنزاعات المسلحة، الحروب والهجمات العسكرية في غزة على مدى العقود الماضية أدت إلى مقتل آلاف الأطفال، وتسببت في تهجير وتشريد مئات الآلاف منهم.
يعيش الأطفال في ظروف قاسية، حيث يؤثر الحصار والعنف المستمر على صحتهم النفسية والجسدية، بعضهم يجد نفسه في مواجهة مع واقع مؤلم لا مفر منه، حيث يصبح العنف جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية.
وفي اليابان، كانت هناك حالة بارزة لطفلة تُدعى يوكو، التي تعرضت للتنمر بشكل مستمر في المدرسة بسبب شكلها الخارجي وانتمائها الاجتماعي، وعلى الرغم من أنها حاولت مقاومة هذا التنمر والحديث عن معاناتها، فإن المدرسة والمجتمع لم يتمكنا من تقديم الدعم الكافي لها.
انتهت حياة يوكو بالانتحار، ما أدى إلى صدمة كبيرة في المجتمع الياباني وفتح نقاشات واسعة حول دور المدارس والمجتمع في محاربة التنمر وتوفير بيئة آمنة للأطفال.
في الهند، تُعد قضية انتحار الأطفال بسبب ضغوط الامتحانات التعليمية مثالاً آخر على كيف يمكن للعنف النفسي أن يؤدي إلى تراجيديا مأساوية، النظام التعليمي الصارم والتوقعات العالية من الأسرة والمجتمع أدت إلى زيادة معدلات الانتحار بين الأطفال والشباب.
وتشير الأرقام إلى أن هناك الآلاف من الأطفال الذين يُقدمون على الانتحار سنوياً في الهند بسبب الفشل الدراسي أو الخوف من النتائج، ما يعكس أزمة نفسية واجتماعية حادة.
أما في إفريقيا، فإن العنف الناتج عن الفقر والحروب الأهلية يمتد إلى الأطفال بشكل كبير، في مناطق مثل الكونغو وجنوب السودان، يُجبر الأطفال على المشاركة في الحروب كجنود أطفال أو يُجبرون على العمل في ظروف قاسية لتأمين لقمة العيش، الأوضاع الصعبة التي يعيشها هؤلاء الأطفال تؤدي في كثير من الأحيان إلى انهيار نفسي، مما يدفع البعض إلى التفكير في الانتحار كحل للهروب من هذا الجحيم الذي يعيشون فيه.
في نهاية المطاف، هذه الحالات، سواء كانت مرتبطة بالعنف الأسري أو التنمر المدرسي أو النزاعات المسلحة، تؤكد أن الأطفال هم الضحايا الأبرياء في العديد من الأزمات التي تواجهها المجتمعات اليوم.
صرخة للتدخل العاجل
وقال خبير علم النفس، علي الغندور، إن قضية العنف ضد الأطفال والانتحار من بين أخطر التحديات النفسية والحقوقية التي تواجه المجتمعات الحديثة، إذ تحمل في طياتها أبعادًا معقدة تتعلق بالأسرة، والمجتمع، والظروف الاقتصادية والسياسية، وتأثيراتها النفسية المدمرة على الأطفال، يتعرض الأطفال في مختلف أنحاء العالم لمستويات متزايدة من العنف، سواء كان ذلك في إطار العائلة، أو نتيجة للحروب والنزاعات المسلحة، أو نتيجة لآثار الفقر والتهميش الاجتماعي، هذا العنف لا يقف عند حدوده المادية فقط، بل يمتد إلى الأبعاد النفسية، حيث يدفع بعض الأطفال في نهاية المطاف إلى تبني خيارات مأساوية مثل الانتحار.
وتابع الغندور، في تصريحات لـ"جسور بوست"، من الناحية النفسية، يتعرض الأطفال الذين يعانون من العنف المستمر إلى صدمات تؤثر على نموهم الطبيعي وتطورهم العقلي والعاطفي، العنف الجسدي أو اللفظي يجعل الطفل يشعر بالتهديد والخوف، ويفقد الثقة في المحيطين به وفي العالم من حوله، مع مرور الوقت، تتراكم هذه المشاعر، ويعاني الطفل من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة، مما يؤدي إلى تفاقم حالته النفسية وجعل الحياة تبدو بلا قيمة، في هذه الحالات، يصبح الانتحار خيارًا يراه الطفل سبيلا للهروب من الألم الذي لا يمكنه تحمله أو السيطرة عليه.
واسترسل، من بين الأسباب التي تزيد من احتمالية انتحار الأطفال، يأتي العنف الجنسي في مقدمة هذه العوامل، الفقر والتشرد الناتج عن النزاعات المسلحة، فضلاً عن آثار الأزمات البيئية، تزيد من تعقيد الوضع النفسي للأطفال وتضعهم في ظروف من الفقدان التام للأمان والدعم، الأطفال الذين يعيشون في هذه الظروف القاسية يعانون من عزلة اجتماعية ونفسية شديدة، ما يجعلهم أكثر عرضة للشعور بأنهم غير قادرين على الهروب من معاناتهم إلا بإنهاء حياتهم.
وذكر، إحدى النقاط المركزية في معالجة هذا الوضع هي الاعتراف بأن العنف ضد الأطفال ليس مشكلة فردية تخص أسرة أو مجتمعا معينا فقط، بل هو أزمة عالمية تتطلب استجابة حقوقية دولية جادة، لا يمكن إغفال أن العنف ضد الأطفال يمثل انتهاكًا صارخًا لحقوقهم الإنسانية الأساسية، بما في ذلك الحق في الأمان والنمو في بيئة صحية ومستقرة، يجب على المجتمعات الدولية والحكومات أن تتحمل مسؤولياتها في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي لهؤلاء الأطفال، وأن تسعى جاهدة لتوفير بيئات حماية آمنة وفعالة لمنع وقوع المزيد من حالات العنف.
وأشار الغندور، إلى أن الدعم النفسي للأطفال المتضررين من العنف يظل إحدى الأدوات الأكثر فاعلية في الحد من احتمالات انتحارهم. فبرامج التدخل النفسي، التي تركز على تقديم الدعم العاطفي والمعنوي للأطفال، تسهم بشكل كبير في تحسين حالتهم النفسية، وتعزز من قدرتهم على مواجهة الصدمات والتغلب على مشاعر اليأس، إلا أن هذه الجهود يجب أن تكون متواصلة وشاملة لضمان حصول الأطفال على الرعاية النفسية اللازمة في الوقت المناسب، وعدم تركهم فريسة للظروف التي قد تدفعهم إلى اتخاذ قرارات مأساوية.
وأتم، العنف ضد الأطفال والانتحار ليسا فقط مشكلتين نفسيتين، بل هما تحديان حقوقيان واجتماعيان يتطلبان تحركًا حاسمًا من جميع الأطراف المعنية، من الضروري ألا نسمح بأن يتحول هذا الألم النفسي العميق إلى واقع دائم يلاحق الأطفال طيلة حياتهم.
أزمة تزداد تعقيداً
وقال الخبير الاقتصادي، الدكتور رشاد عبده، إن للعنف ضد الأطفال نتيجة مؤلمة ومعقدة تنجم عن تداخل عدة عوامل اجتماعية واقتصادية، يُظهر الواقع أن الفقر والنزاعات المسلحة يمثلان المحركين الرئيسيين لزيادة هذه الظاهرة، الأطفال الذين يعيشون في فقر شديد غالبًا ما يكونون عرضة للعنف الجسدي والنفسي، حيث تتجلى آثار الفقر في بيئاتهم اليومية، ما يؤثر على صحتهم النفسية والجسدية يُعد هؤلاء الأطفال غير محميين من الاستغلال وسوء المعاملة، حيث تضعهم ظروفهم في موقف ضعف أمام العالم.
وتابع عبده، في تصريحات لـ"جسور بوست"، تتفاقم الأزمة في أوقات النزاع، حيث يصبح الأطفال ضحايا مباشرين للصراعات المسلحة، في هذه البيئات، يصبح الخوف من فقدان الحياة روتينًا يوميًا، ما يؤثر بشكل عميق على تطورهم النفسي والعاطفي، تشير إحصاءات إلى أن الأطفال الذين يعانون من العنف في بيئتهم اليومية قد يكونون أكثر عرضة للإصابة بمشاكل صحية عقلية مثل الاكتئاب والقلق، وقد تصل بعض الحالات إلى الانتحار.
وذكر، تساهم التغيرات المناخية في زيادة معدلات العنف ضد الأطفال، الكوارث الطبيعية والنزوح الناتج عنها يعمقان الفجوة الاقتصادية والاجتماعية، ما يجعل الأطفال أكثر عرضة للاختطاف والاستغلال.
دراسة أجراها معهد التنمية لما وراء البحار، وجدت أن الأطفال النازحين بسبب الكوارث الطبيعية يواجهون تحديات نفسية إضافية، مثل فقدان الهوية والأمن.
وتابع، تتجاوز تبعات العنف ضد الأطفال الجوانب الفردية لتصل إلى أبعاد اقتصادية واجتماعية واسعة، المجتمعات التي تعاني من ارتفاع معدلات العنف تواجه صعوبات في التنمية المستدامة، حيث يؤثر ذلك على التعليم والقدرة الإنتاجية على المدى الطويل، تكاليف الرعاية الصحية والعلاج النفسي المرتبطة بالعنف يمكن أن تُحمِّل الحكومات أعباءً مالية ضخمة، ما يعيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي، علاوة على ذلك، ينشئ العنف دورة مفرغة، حيث إن الأطفال الذين يتعرضون للعنف غالبًا ما ينقلون هذه الأنماط السلوكية إلى الجيل التالي، وبالتالي يتفاقم العنف داخل المجتمعات ويستمر عبر الأجيال، من الضروري أن تدرك الحكومات والمنظمات الدولية أن معالجة قضية العنف ضد الأطفال تتطلب استجابة متعددة الأبعاد تشمل تعزيز الظروف الاقتصادية، وتحسين الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال المتضررين.
وأتم، لكسر هذه الحلقة، يجب أن يكون هناك التزام دولي قوي لمواجهة العنف ضد الأطفال، من خلال توفير بيئات آمنة ومستقرة، فشل المجتمع الدولي في اتخاذ إجراءات فعالة لحماية الأطفال من العنف يعني الاستمرار في إنتاج جيل معاق نفسيًا واجتماعيًا، ما يهدد مستقبل البشرية جمعاء.