العالم لا يخلو من الأحرار.. أرونداتي روي نموذجًا
العالم لا يخلو من الأحرار.. أرونداتي روي نموذجًا
عن جدارة واستحقاق، حصلت الكاتبة الهندية أرونداتي روي على جائزة «PEN Pinter» البريطانية لعام 2024، وهي جائزة مرموقة تُمنح سنويًّا للكتّاب الذين تتضمن أعمالُهم الأدبية براعة استثنائية وتواجه القضايا العالمية بجرأة وصدق. وحسب ديباجة الجائزة فإنها تُمنح تكريمًا للكتّاب «الذين يُظهرون نظرة ثابتة للعالم وغير متزعزعة، ويُظهرون كذلك إصرارًا فكريًّا قويًّا لتعريف الحقيقة لمجتمعاتنا»، ومما ذكرَتْه لجنة التحكيم أنّ روي «تتمتع بقدرة فائقة على سرد قصص الظلم بذكاء وجمال، وأنها أصبحت صوتًا دوليًّا يتجاوز حدود الهند».
وبما أنّ الجائزة تتيح للفائز اختيار صوت آخر من بين نشطاء الرأي ويتقاسم جائزته معه، فقد اختارت أرونداتي روي، الناشط المصري علاء عبدالفتاح الذي يقضي محكوميته في السجن ليقاسمها الجائزة، ولم يكن ذلك كلّ شيء؛ ففي حفل أقيم في المكتبة البريطانية في العاصمة البريطانية لندن مساء الخميس العاشر من أكتوبر الحالي، أعلنت روي أنّ نصيبها من أموال الجائزة تبرعت به لصالح صندوق إغاثة أطفال فلسطين.
تُعد أرونداتي روي من أبرز الكتّاب في الهند والعالم، اشتهرت بروايتها الأولى «إله الأشياء الصغيرة» التي فازت بجائزة البوكر عام 1997، وحققت نجاحًا عالميًّا كبيرًا؛ وهي بجانب إسهاماتها الأدبية تُعرف بنشاطها السياسي والاجتماعي، وتكتب بشغف عن قضايا حقوق الإنسان والبيئة، وتنتقد السياسات الحكومية في الهند وخارجها، ممّا سبّب لها صداعًا مزمنًا؛ فهي تواجه حاليًّا تحدّيات قانونية في بلادها بسبب تصريحاتها السياسية، حيث تتهمها السلطات بالتحريض على الفتنة حول استقلال كشمير، وهي التهمة التي أثارت انتقادات واسعة، ووقّع أكثر من 200 مثقف وناشط وكاتب هندي على رسالة مفتوحة تدعو الحكومة الهندية إلى سحب هذه التهم.
وهكذا فإنه رغم سقوط النخب وخذلان البعض، فإنّ العالم لا يخلو من الأحرار الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن القضايا العادلة، رغم اختلاف جنسياتهم وأديانهم وأعراقهم ومذاهبهم عمن يدافعون عنهم؛ وتأتي روي ضمن هؤلاء؛ ففي كتاباتها ومحاضراتها تدافع عن حقوق المظلومين في كلّ مكان وليس في بلدها فقط، وتُطوّع قلمها أداة للنضال والتغيير، وتتصف بالجرأة ولا تبالي بالتحديات والانتقادات التي تواجهها في نضالها من أجل العدالة والحرية.
وإذا كانت الحكومة الهندية قد انحازت إلى الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين وأهل غزة -كما رأينا خلال الأشهر الماضية- فإنّ روي تحدّثت بشجاعة ضد هذا الموقف، وألقَت بيانًا في مارس الماضي في اجتماع في نادي الصحافة في نيودلهي، انتقدت فيه بشدّة اصطفاف رئيس وزراء بلادها ناريندرا مودي مع إسرائيل. ومما انتقدته أنه «صديقٌ حميمٌ لنتنياهو»، وختمت بيانها بأنّ «فلسطين سوف تكون حرّة». وهذا في الواقع هو موقفها الثابت؛ إذ سبق لها أن اعتبرت أنّ «غزّة بوصلة العالم الأخلاقية»؛ وفي كلِّ المحافل وقفت مع الحقّ الفلسطيني علنًا: «إذا لم نقل أيّ شيء عن المذبحة الوقحة التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين، حتى عندما يتم بثها مباشرة في فترات الاستراحة الأكثر خصوصية في حياتنا الشخصية، فإننا نكون متواطئين معها». إضافة إلى هذا فقد أيّدت في كلمة لها في الجامعة الأمريكية في بيروت في شهر يونيو الماضي، أيّدت غزة بلا مواربة، ممّا ذكّرنا بشجاعتها التي تحدّثَت بها ضد الغزو الأمريكي للعراق؛ فقد قالت إنّ الكلام عن غزة لا يصحّ من دون كلمات ثلاث هي: «الاحتلال.. والتمييز العنصري.. والإبادة الجماعية»، وإنّ جرائم إسرائيل لم تبدأ في السابع من أكتوبر 2023، ولا ينبغي لأحد أن يعتقد أنَّ هناك مساواة أخلاقية بين ارتكاب إسرائيل لأعمال الإبادة وبين عملية مقاومة الاحتلال والفصل العنصري. وتقول: «لقد قدّم مرتكبو الحرب على غزة أنفسهم كضحايا، وصوّر المستعمرون الذين يديرون دولة الفصل العنصريّ أنفسهم على أنهم مضطهَدون، وأيّ تشكيك في ذلك يعني اتهامك بأنك معادٍ للسامية».
لم تكن صدفة أن اختارت أرونداتي روي الجامعة الأمريكية في بيروت لتتحدّث عن احتجاجات طلبة الجامعات الأمريكية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وذهبت إلى أبعد من ذلك بقولها: «إنّ إسرائيل تحتل الولايات المتحدة الأمريكية قانونيًّا، وإنّ الشرطة الأمريكية تضرب الطلاب المتظاهرين رفضًا للإبادة نيابة عن إسرائيل». ورأت أنّ الجامعات الأمريكية «متخمة بالمال من رسوم الطلاب، ومن ضخ رأس المال الضخم من المانحين الأثرياء والشركات ومؤسساتها، وأنها تستثمر في الإبادة الجماعية وصناعات الأسلحة».
للكاتبة مواقف ثابتة ومعلنة ضد السياسة الخارجية الأمريكية؛ لذا وقفت ضد الغزو الأمريكي للعراق -كما ذكرنا- وكذلك الحرب الأمريكية على أفغانستان. وفي عام 2001، ردت في مقالة في صحيفة «الجارديان» البريطانية على غزو أفغانستان، بأنّ الحرب ليست انتقامًا لأحداث الحادي عشر من سبتمبر كما تدّعي أمريكا؛ وإنما هو عمل آخر من أعمال الإرهاب ضد شعوب العالم. وقالت فاضحةً النفاق المزدوج لكلٍّ من الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير: «عندما أعلن عن الضربات الجوية، قال بوش: «نحن أمة مسالمة»، ورد عليه بلير «نحن أمة مسالمة»؛ فهي ترفض ادعاءات الولايات المتحدة بأنها أمة محبة للسلام والحرية.
•من المفارقات أن نقرأ مقالات ونشاهد خطبًا لعرب ومسلمين يؤيدون الكيان الصهيوني ضد حماس وضد لبنان، وهي أصواتٌ أعلى ضجيجًا من أصوات الصهاينة أنفسهم؛ لكن في المقابل فإننا نجد أصواتًا حرة من بلدان العالم المختلفة تقف بوضوح مع القضية الفلسطينية وترفض آلة الانتقام الإسرائيلية من غزة وأهلها؛ ومن هذه الأصوات مثلا -وهي لله الحمد كثيرة- أرونداتي روي؛ وعندما توصف بأنها «مناضلة»، فهي تستحق اللقب بجدارة، بسبب مواقفها المدافعة عن حرية الإنسان في كلِّ مكان في العالم، وهي بذلك تقدّم درسًا للبعض ممن يُسمّون أنفسهم «ناشطين»، أو «معارضين»، الذين كانت بضاعتهم المزجاة الوحيدة هي السبّ والقذف وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والجهوية عبر منصة إكس؛ وهي تعلّم الجميع أنّ الذي ينشط في مجال الدفاع عن حريّات الإنسان -بغض النظر عن جنسية هذا الإنسان وعِرقه ودينه ومذهبه- هو الناشط الحقيقي، وهذا ما فعلته وما يفعله المثقفون الناشطون من دول العالم المختلفة، الذين وقفوا دفاعًا عن الفلسطينيين وعن معتقلي جوانتانامو والسجون السرية الأخرى، وعمن اختفوا في دول مثل ليبيا ومصر وسوريا وغيرها، وهم بمواقفهم تلك أكدوا أنّ العالم لا يخلو من الأحرار.
نقلا عن صحيفة عمان