«الصدمات النفسية».. جراح خفية للنساء في مناطق النزاعات والحروب
تزامناً مع اليوم الدولي للقضاء على العنف
بآثار نفسية غائرة داخل وجدان النساء، تخلف النزاعات المسلحة تحديات تتجاوز البُعد المادي لتشمل أعباء عاطفية واجتماعية طويلة الأمد، إذ تتعرض النساء وعائلاتهن للعنف المباشر مثل القصف أو الاعتداءات الجسدية أو الجنسية وغيرها، ما يؤدي إلى صعوبة في التأقلم مع الحياة اليومية.
وتتعدد الآثار النفسية المترتبة على نشوب النزاعات، والتي تتراوح بين بين اضطرابات ما بعد الصدمة، والقلق والاكتئاب، ومشاعر الحزن والفقدان، والوصم الاجتماعي، والإرهاق النفسي، إذ تسترجع النساء الذكريات المؤلمة والشعور بعدم الأمان والخوف المستمر على النفس والأبناء، وفقدان الأمل في المستقبل نتيجة دمار المنازل وفقدان الأحبة.
وتتعرض النساء والفتيات إلى العنف أثناء النزاع المسلح، والذي يتمثل في العنف الجسدي والجنسي والنفسي، بما في ذلك القتل، والتعذيب، وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والاختطاف، وقطع أجزاء من الجسد أو تشويهها، والتجنيد القسري للنساء كمقاتلات، والاغتصاب، والاسترقاق الجنسي، والاستغلال الجنسي، والاختفاء القسري، والاعتقال التعسفي، والزواج القسري، والبغاء القسري، والإجهاض القسري، والحمل القسري، والتعقيم القسري.
ويترك فقدان أفراد الأسرة والنزوح في وجدان النساء آلاما غائرة وإحساسا بالوحدة والعزلة، إلى جانب أن اللاتي يتعرضن للعنف الجنسي غالبًا ما يواجهن وصمة اجتماعية تؤدي إلى انعدام الثقة بالنفس، فضلا عن الأعباء المتزايدة التي تتحملها النساء كمعيلات لأسرهن بسبب غياب الرجال نتيجة الحرب.
إعالة الأسرة أو اللجوء للعمل
وفي أثناء النزاعات، تجبر النساء على لعب أدوار جديدة، مثل إعالة الأسرة أو اللجوء للعمل في ظروف غير آمنة أو غير لائقة، وهو ما قد لا يتماشى مع الأعراف التقليدية، كما أن النساء اللاتي يتعرضن للعنف الجنسي أو ينخرطن في العمل الميداني يُواجهن أحكامًا اجتماعية قاسية، وكذلك الأيتام وأبناء النساء اللاتي تعرضن للعنف قد يُوصمون داخل المجتمع.
ويجبر النزوح القسري النساء على ترك شبكات الدعم الاجتماعي مثل الأهل والجيران، ما يزيد من شعورهن بالعزلة، وكذلك فإن العيش في مخيمات اللاجئين أو أماكن غير مستقرة يؤدي إلى ضعف البنية الاجتماعية والدعم، ما يزيد الأعباء النفسية على النساء.
وتضعف النزاعات والصراعات من الروابط الأسرية نتيجة للفقدان والانفصال، وتؤدي إلى تزايد معدلات العنف الأسري، جراء الضغوط النفسية والاجتماعية التي تتعرض لها العائلات، وخاصة النساء بوصفهن الحلقة الأضعف في المنظومة الأسرية.
ويعاني الأطفال الذين يعيشون في بيئات النزاع من صدمات نفسية بسبب مشاهد العنف والدمار، كما يجبرون على العمل لمساعدة الأسر أو يُجندون من قبل الجماعات المسلحة، ما يؤثر بالتبعية على نفسية الأمهات اللاتي يفقدن أبناءهن سواء بالموت أو بالتجنيد مع أحد أطراف الصراع.
وتحرم النساء في مناطق النزاع من خدمات الدعم النفسي والاجتماعي، حيث يندر تقديم البرامج العلاجية المتخصصة للتعامل مع الصدمات النفسية، أو المراكز التي تدعم النساء والأطفال لتوفير بيئة آمنة لهم، إلى جانب انعدام التوعية المجتمعية حول تأثير النزاعات على النساء وكيفية تقديم الدعم لهن.
وتعاني معظم البلدان التي تشهد النزاعات والحروب الأهلية من الفراغ التشريعي أو ضعف البنية القانونية لحماية النساء ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، ولذلك تمتد الآثار النفسية والاجتماعية للنزاعات على النساء وعائلاتهن لفترات طويلة حتى بعد انتهاء النزاع.
احتياجات ضرورية
بشكل عام يتطلب التعامل مع هذه التحديات نهجًا شاملًا يشمل الدعم النفسي، والاقتصادي، والاجتماعي، مع التركيز على تعزيز حماية النساء وإعادة بناء المجتمعات المتضررة ودمج الأطفال في المنظومة التعليمية.
وتلعب العلاقات الأسرية والدعم المجتمعي دورًا محوريًا في التخفيف من آثار النزاعات على الأفراد، وخاصة النساء والأطفال، حيث تعد هذه العلاقات بمثابة شبكة أمان اجتماعي ونفسي تساعد المتضررين على التكيف مع الصعوبات وإعادة بناء حياتهم.
وتوفر العلاقات الأسرية للشخص المتضرر مصدرًا مستمرًا للأمان والطمأنينة، ما يساعد على التخفيف من القلق والاكتئاب الناتجين عن النزاعات، كما يؤدي توزيع المسؤوليات بين أفراد الأسرة إلى تقليل الضغوط على النساء المعيلات، وتعزيز التماسك الأسري في مواجهة التحديات.
ويقول المتخصصون في علم النفس، إن الأسرة هي خط الدفاع الأول، حيث تعمل على حماية الأفراد من العنف المجتمعي أو العزلة الاجتماعية، كما تقوي العلاقات الأسرية الشعور بالهوية والانتماء، ما يدعم استقرار الحالة النفسية للأفراد المتضررين نفسيا.
ويتطلب إعادة بناء الروابط الاجتماعية، تفعيل شبكات الدعم الاجتماعي، مثل الجيران والأصدقاء، لما لذلك من تأثير على تجاوز العزلة التي تفرضها النزاعات، كما توفر المجموعات المجتمعية، مثل الجمعيات المحلية أو جلسات الدعم النفسي، مساحات للأفراد للتعبير عن مشاعرهم والتعافي من الصدمات.
ويمكن أن يشمل الدعم المجتمعي تبادل الموارد، مثل الطعام والمأوى، بين الأسر المتضررة، ما يقلل من وطأة الأزمات المعيشية، إلى جانب أن المبادرات المجتمعية تُوفر للنساء والأطفال فرصًا للتعليم أو التدريب المهني، ما يسهم في تحسين ظروفهم المستقبلية.
ويساهم في تخفيف معاناة النساء في مناطق النزاع دعم المجتمعات المحلية من خلال مشاريع تمكين اقتصادي وبرامج الدعم النفسي والاجتماعي، إلى جانب العمل على تغيير المعتقدات التي تُسبب وصم النساء أو الناجين من النزاعات لتشجيع مشاركتهم في المجتمع.
ويخلق الاستقرار الأسري والمجتمعي بيئة مستقرة نسبيًا للنساء والفتيات والأطفال، حتى في ظروف النزاع، العامل الذي يساعدهم على التعافي النفسي والتكيف مع الواقع والتعامل مع الأزمات، وتعزيز الصمود النفسي والاجتماعي للأفراد، ما يساعدهم على التعافي وإعادة بناء حياتهم رغم التحديات.
وينص القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية الخاصة، على حماية النساء والأطفال في مناطق النزاعات المسلحة، باستخدام جميع الوسائل المتاحة، إضافة إلى محاولة إشراك النساء في جميع التدابير التي يمكن اتخاذها بشأنهن.
اضطرابات نفسية وجسدية
وتؤدي النزاعات والحروب إلى فقدان ملايين النساء سبل عيشهن ومدخراتهن والوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والغذاء، كما كان العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك العنف الجنسي، يعيق وصول المساعدات الإنسانية والجهود الرامية إلى دعم النساء المحتاجات.
وقالت الدكتورة هناء أبو شهدة، أستاذة علم النفس بجامعة الأزهر بمصر، إن النساء في مناطق النزاعات يتعرضن لضغوط نفسية وجسدية هائلة تؤثر على صحتهن الجسدية، وتزيد من احتمالية الإصابة بأمراض واضطرابات نفسية متنوعة، أبرزها اضطراب ما بعد الصدمة، واضطرابات القلق، والاكتئاب، واضطرابات الشخصية الحدية وغيرها.
وأوضحت أبو شهدة، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن فقدان الأحبة والعنف والتهجير والاعتداءات الجسدية أو الجنسية، تعمل على إصابة النساء بالاضطرابات النفسية المزمنة والتي تنعكس على صحتها الجسدية من خلال الإصابة بالخفقان السريع للقلب وتوتر العضلات وصعوبة التنفس وفقدان الشهية وغيرها.
وأشارت إلى أن العديد من النساء اللاتي يتعرضن للعنف الجنسي ونوبات الهلع في مناطق النزاعات، عادة ما يلجأن إلى العزلة الاجتماعية بسبب الشعور بالذنب أو العار، والخوف من التواصل مع الآخرين، ما يؤدي إلى صعوبة في التكيف مع الوضع الجديد.
وبشأن الاحتياجات الضرورية للنساء أثناء الحروب والنزاعات، قالت هناء أبو شهدة، إن الدعم النفسي الاجتماعي يتصدر هذه القائمة من خلال مجموعات الدعم المجتمعي لتوفير بيئة آمنة للنساء للتعبير عن معاناتهن، إلى جانب العلاج النفسي من خلال جلسات فردية أو جماعية تشمل العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، فضلا عن أهمية التدخلات الطارئة والتي تتمثل في تقديم المأوى والأمان والخدمات الأساسية لتقليل عوامل الخطر، والتمكين الاقتصادي لمساعدتهن في بناء حياة جديدة من خلال فرص العمل والتدريب المهني.
الصحة النفسية للنساء
وأوضحت مؤسسة وايامو (غير ربحية مقرها أوغندا) في دراسة أن النزاعات المسلحة تترك آثاراً عميقة وجارحة على الصحة النفسية للنساء، حيث يجدن أنفسهن في مواجهة متواصلة مع ضغوط نفسية هائلة نتيجة العنف والخوف المستمر، إذ تعيش النساء والفتيات في مناطق الحروب تحت وطأة تهديدات يومية، تتراوح بين العنف الجسدي والنفسي، سواء من الأطراف المتحاربة أو من البيئة الاجتماعية المتوترة.
وأضافت: "يتفاقم هذا الوضع حين تتعرض النساء لفقدان الأحبة والأهل أو التشرد، ما يفضي إلى شعور طاغٍ بالحزن واليأس، حيث يجدن أنفسهن في حالة من الحداد المستمر، فيترك هذا الحزن أثراً نفسياً طويل الأمد يعمق مشاعر العزلة والخوف من المستقبل".
وتابعت: "على الرغم من معاناة النساء في مناطق النزاعات والحروب، فإن الكثير منهن يفضلن الصمت وسط ضجيج الحرب، حيث تتجنب العديد منهن التعبير عن آلامهن، ما يضاعف من تداعيات الأوجاع النفسية والأمراض الجسدية على صحتهن، الأمر الذي يستدعي المزيد من الاهتمام والبحث لضمان تقديم الدعم النفسي المناسب لهن في فترات ما بعد النزاع".
وتكافح النساء في غزة وليبيا والسودان ولبنان واليمن وأفغانستان والصومال ودول عديدة تشهد نزاعات مسلحة وحروبا ليتمكن من الوقوف على أقدامهن في ظل متغيرات أمنية واقتصادية واجتماعية سريعة، لكن الحرب تحاصرهن من كل الجهات، ما يفاقم معاناة النساء ويجعلهن عرضة للانتكاسات الاقتصادية والاجتماعية المتتالية.