«فورين بوليسي»: التفكك والانقسام العالمي يؤدي إلى عواقب اقتصادية واجتماعية صعبة
العزلة لن تجعل أي دولة قوة عظمى
كتب راغورام راجان، أستاذ التمويل في كلية بوث لإدارة الأعمال بجامعة شيكاغو، مقالا نشرته "فورين بوليسي" الأمريكية اليوم الأربعاء، يسلط الضوء على التحولات الجذرية التي تشهدها السياسة العالمية، في ظل تزايد التوجهات الانعزالية التي تتبعها بعض الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة في ظل رئاسة دونالد ترامب.
يبرز المقال فكرة أساسية مفادها أن العزلة لا يمكن أن تكون سبيلًا لتحقيق القوة العظمى لأي دولة، بل على العكس، فإن التفكك والانقسام العالمي سيؤدي إلى عواقب اقتصادية واجتماعية صعبة ستؤثر على جميع الدول، ويشير إلى أن العالم لن يستطيع تجنب مصيره المشترك إلا إذا أدرك أن التعاون والتكامل بين الدول هو السبيل الوحيد لتحقيق الرخاء والازدهار على المدى الطويل.
تحولات جذرية في النظام العالمي
مع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة مرة أخرى، دخلت الولايات المتحدة في مرحلة جديدة من التحولات السياسية والاقتصادية التي أسفرت عن تغييرات جذرية على مستوى السياسات الداخلية والخارجية، لم تكن هذه التحولات مجرد تغييرات شكلية في القيادة، بل كانت امتدادًا لتحولات أعمق في النظام الدولي الذي تأسس في التسعينيات بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، حيث كان النظام الدولي حينها يعتمد على مبادئ التعددية الاقتصادية والانفتاح العالمي، وهي مبادئ سادت لفترة طويلة وأدت إلى تعزيز العولمة والتعاون بين الدول الكبرى، إلا أن هذه المبادئ بدأت تتعرض لتحديات كبيرة في السنوات الأخيرة.
تراجع العولمة وزيادة التوترات
في بداية الألفية الجديدة، كانت التوقعات تشير إلى أن العالم سيكون على موعد مع مزيد من التكامل الاقتصادي، ما من شأنه أن يحقق الاستقرار والنمو العالمي، لكن الواقع جاء مخالفًا لهذه التوقعات، حيث شهدت العقود الأخيرة تزايدًا ملحوظًا في التوترات التجارية والسياسية بين الدول الكبرى.
وتسببت الأزمات الاقتصادية العالمية، مثل الأزمة المالية العالمية في 2008 وجائحة كوفيد-19، في تعميق هذه التوترات وأدت إلى تراجع العولمة بشكل لم يكن متوقعًا، أدى هذا التراجع إلى تحديات كبيرة لا سيما بالنسبة للدول النامية التي كانت تعتمد على الانفتاح الاقتصادي وتدفقات التجارة العالمية لتحقيق النمو.
التكنولوجيا ودورها
من بين العوامل التي أسهمت في التحولات الجذرية التي يشهدها النظام العالمي، نجد أن التقدم التكنولوجي كان له تأثير بالغ، حيث أدى الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة إلى إلغاء العديد من الوظائف التقليدية التي كانت تشغلها اليد العاملة البشرية.
وأصبح التقدم التكنولوجي يشكل تحديًا كبيرًا حتى للقطاعات المتقدمة، حيث أضحت تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي قادرة على القيام بالعديد من المهام التي كانت تعتبر في السابق تخصصًا بشريًا، ولعل أبرز هذه المجالات كان التحليل المالي، والتشخيص الطبي، والتصنيع، حيث أظهرت التقنيات الجديدة قدرتها على التفوق على الإنسان في الكثير من هذه المجالات.
التحديات التي تواجهها الدول النامية
لم تكن آثار هذه التحولات مقتصرة على الدول المتقدمة فقط، بل امتدت أيضًا إلى الأسواق الناشئة، ففي ظل التوسع في استخدام الأتمتة والتقنيات الحديثة، شهدت هذه الدول تراجعًا كبيرًا في وظائف التصنيع، وهو ما أدى إلى زيادة معدلات البطالة وزيادة الضغوط الاقتصادية.
بدأت الحكومات في بعض الدول النامية بتبني سياسات تهدف إلى تعزيز التنافسية من خلال تبني التقنيات الحديثة، لكن تلك المحاولات كانت محكومة بالصعوبات الاقتصادية والموارد المحدودة، وأصبح من الصعب لهذه الدول التكيف بشكل كامل مع هذا التغير التكنولوجي السريع، ما عمق الفجوة الاقتصادية بين الدول المتقدمة والنامية.
موجات الهجرة
من بين التحديات الكبيرة التي يواجهها النظام العالمي في الوقت الراهن هي موجات الهجرة التي نتجت عن النزاعات والصراعات المستمرة في العديد من مناطق العالم، لا سيما في الشرق الأوسط وإفريقيا، هذا التدفق الكبير للمهاجرين فرض ضغوطًا هائلة على الدول المتقدمة، خاصة تلك التي تشهد ارتفاعًا في أعداد اللاجئين والمهاجرين مثل الدول الأوروبية.
أصبحت هذه الدول تتبنى سياسات أكثر تشددًا تجاه الهجرة، حيث زادت مشاعر القلق من فقدان الوظائف وزيادة التوترات الثقافية بين السكان المحليين والمهاجرين.
على الرغم من الضغوط التي فرضتها موجات الهجرة على الدول المستقبلة، فقد أسهم المهاجرون بشكل ملحوظ في تعزيز اقتصادات هذه الدول، استطاع المهاجرون في بعض الدول الأوروبية شغل وظائف في القطاعات التي تعاني من نقص في العمالة مثل القطاع الصحي والخدمات المتخصصة، ورغم هذه المساهمة الهامة، فقد استمرت المخاوف الاجتماعية والسياسية بشأن زيادة أعداد المهاجرين.
تداعيات السياسات الحمائية
اتجهت العديد من الدول في ظل التحديات الاقتصادية المستمرة والتوترات التجارية المتزايدة بين القوى الكبرى، إلى تبني سياسات حمائية لحماية الصناعات المحلية وتعزيز فرص العمل داخل حدودها.
شملت هذه السياسات فرض رسوم جمركية وزيادة الحواجز التجارية، وهو ما أثر بشكل كبير على التدفقات التجارية بين الدول، ورغم أن هذه السياسات قد تكون مفيدة على المدى القصير، فإن تأثيراتها على المدى الطويل قد تكون سلبية، حيث تؤدي إلى تراجع التجارة العالمية وتباطؤ النمو الاقتصادي بشكل عام.
التكنولوجيا وسوق العمل العالمي
من المعروف أن التكنولوجيا أصبح لها دور بالغ الأثر في إعادة تشكيل سوق العمل على مستوى العالم، مع تزايد استخدام الأتمتة والذكاء الاصطناعي، بدأ العديد من القطاعات التقليدية في الانكماش أو اختفاء الوظائف المرتبطة بها.
على سبيل المثال، أصبح من الواضح أن العديد من الوظائف في قطاعات مثل التصنيع والخدمات اللوجستية قد تقلصت أو اختفت تمامًا، وهو ما أدى إلى زيادة معدلات البطالة في العديد من الدول المتقدمة، وفي الوقت ذاته، ظهرت وظائف جديدة تتطلب مهارات مختلفة، ما جعل التكيف مع هذه التغيرات يمثل تحديًا كبيرًا للعمال الذين لا يملكون هذه المهارات.
الحاجة إلى الدعم الحكومي
في مواجهة هذه التحديات العالمية، أصبح من الضروري أن تتبنى الحكومات سياسات دعم اقتصادية تساعد في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، حيث يتطلب الوضع الراهن تقديم حوافز اقتصادية مباشرة، مثل الدعم النقدي للأسر ذات الدخل المحدود، بالإضافة إلى الاستثمار في القطاعات التي تضررت جراء الأزمات الاقتصادية والتكنولوجية، إلا أن هذه السياسات وحدها لا تكفي لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل، خاصة في ظل التغيرات السريعة التي تشهدها الأسواق العالمية.
ويختتم راجان مقاله مؤكدا أن العزلة والانعزالية لا يمكن أن تكون الحلول الفعالة للتحديات التي يواجهها العالم في الوقت الراهن، بل على العكس، فإن التفكك العالمي وزيادة السياسات الحمائية والتوجهات الانعزالية يمكن أن تؤدي إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العديد من الدول، لذلك، لا بد من تعزيز التعاون بين الدول لتجاوز هذه التحديات، والتوجه نحو نموذج عالمي أكثر تكاملًا وتعاونًا.