حين ينتهي القصف تبقى القنابل.. «أطفال الحروب» بين فخاخ الموت وصمت العالم
حين ينتهي القصف تبقى القنابل.. «أطفال الحروب» بين فخاخ الموت وصمت العالم
عندما تسكت المدافع ويعم الصمت ساحات الحرب، يعتقد كثيرون أن زمن الخطر قد ولى، لكن الحقيقة أن شبح الموت لا يزال يخيم على تلك الأرض التي شهدت المعارك.
وتبقى مخلفات الحروب، من قنابل غير منفجرة وألغام أرضية وذخائر متناثرة، كمصائد قاتلة، خاصة للأطفال الذين لا يدركون خطورتها. في سوريا وحدها، منذ بداية عام 2025، قُتل 169 شخصًا بسبب هذه المخلفات، بينهم 31 طفلًا و6 نساء، فيما أُصيب 205 أشخاص، بينهم 88 طفلًا وسيدة، وفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان.
مخلفات الحرب ليست مجرد خردة معدنية منسية، بل أدوات قتل مؤجلة تنفجر عند أقل احتكاك في غزة، حيث تتكرر الاعتداءات العسكرية، يعيش السكان وسط بقايا ذخائر غير منفجرة، ما يشكل تهديدًا يوميًا للأطفال.
وسجلت الأونروا منذ بداية العام الحالي، أكثر من 563 حالة وفاة لنازحين في الملاجئ بسبب بقايا القنابل، بينما أُصيب 1,790 شخصًا، معظمهم أطفال. في لبنان، يواجه سكان الجنوب تحديًا مماثلًا، حيث تشير التقارير إلى أن أكثر من 500 ألف لغم ما زال مزروعًا في مناطق مختلفة، ما يجعل الأراضي الزراعية والمناطق السكنية فخاخًا قاتلة.
يُقدَّر أن 80% من ضحايا الألغام والمتفجرات من مخلفات الحرب هم مدنيون، والأطفال يشكلون حوالي 50% من هؤلاء، وفقًا لتقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" لعام 2024.
وتعود هذه النسبة المرتفعة إلى الفضول الطفولي الذي يدفعهم لاستكشاف الأجسام الغريبة أو اللعب بها، ففي اليمن، حيث تنتشر الألغام بشكل واسع، قُتل ما لا يقل عن 122 طفلًا عام 2024 بسبب العبث بمخلفات الحروب، ووفقًا لليونيسف المشهد نفسه يتكرر في العراق وأفغانستان، حيث تتحول القنابل غير المنفجرة إلى كوابيس يومية.
ولا تقتصر المخاطر على القتل والإصابة فحسب، بل تمتد إلى إعاقات دائمة. معظم الأطفال الذين ينجون من انفجارات الألغام يفقدون أحد أطرافهم أو أكثر، ما يعوق نموهم الجسدي والنفسي. في سوريا، تشير الإحصائيات إلى أن 30% من الناجين الأطفال يعانون من إعاقات مستديمة، ويحتاجون إلى تأهيل طويل الأمد، بينما في أفغانستان، هناك أكثر من 10,000 طفل مبتور الأطراف بسبب انفجارات الألغام، وفقًا للصليب الأحمر الدولي.
ومن الناحية النفسية، فالأثر لا يقل كارثية عن الضرر الجسدي. الأطفال الذين ينجون من هذه الانفجارات يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، نوبات هلع، وأرق مزمن، وبحسب تقرير لمنظمة "أنقذوا الأطفال"، فإن 60% من الأطفال في مناطق النزاع الذين تعرضوا لتجربة انفجار يعانون من اضطرابات نفسية حادة تستدعي تدخلًا طبيًا ونفسيًا طويل الأمد.
حلول فعالة
لكن كيف يمكن التعامل مع هذه الكارثة المستمرة؟ الحلول الفعالة للتخلص من مخلفات الحرب تتطلب تدخلًا متعدد الأوجه، يبدأ بالتوعية وينتهي بالتدمير المنهجي لهذه الذخائر. برامج التوعية تلعب دورًا جوهريًا في إنقاذ الأرواح، ففي العراق، نجحت حملات التوعية في تقليل عدد الإصابات السنوية بمقدار 40%، بحسب تقرير الأمم المتحدة، أما في اليمن، فإن 70% من الأطفال الذين خضعوا لدورات توعوية أصبحوا قادرين على التعرف على الذخائر غير المنفجرة وتجنبها.
ويعد المحور الأكثر أهمية هو إزالة هذه المخلفات من قبل فرق متخصصة في لبنان، ويعمل المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام منذ عام 1998، وقد نجح في تطهير أكثر من 70% من الأراضي الملوثة في سوريا، وعلى الرغم من محدودية الموارد، تمكنت الفرق الهندسية من إزالة 150,000 قطعة متفجرة منذ عام 2018. أما في غزة، فالتحدي أكبر بسبب استمرار القصف وعدم توفر معدات كافية لإزالة المخلفات بأمان.
ويُقدر أن تكلفة تنظيف متر مربع واحد من الأرض تصل إلى 3 دولارات، بينما تبلغ تكلفة زراعة لغم أرضي أقل من 10 دولارات، ما يخلق معادلة قاتلة يصعب كسرها دون دعم دولي مكثف. في عام 2023، خصصت الأمم المتحدة 238 مليون دولار لمشاريع إزالة الألغام عالميًا، لكن هذا المبلغ لا يغطي سوى 20% من الاحتياجات الفعلية، وفقًا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
على الصعيد القانوني، هناك حاجة ملحة لفرض مزيد من الضغوط على الدول المصنعة والمستخدمة لهذه الأسلحة، إذ إن اتفاقية أوتاوا لعام 1997 التي تحظر استخدام وتخزين الألغام المضادة للأفراد لم توقع عليها دول رئيسية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، ما يسمح باستمرار تصنيع وزرع هذه القنابل القاتلة.
ووثقت منظمة العفو الدولية استخدام ألغام مضادة للأفراد في ما لا يقل عن 13 نزاعًا مسلحًا حول العالم، ما يبرز الحاجة إلى تحركات دبلوماسية أكثر حزمًا لوقف هذا التهديد.
وحسب خبراء، تظل مخلفات الحروب خطرًا مستمرًا يهدد الأجيال القادمة، وأطفال اليوم هم الأكثر تأثرًا بها. في ظل هذا الواقع، يصبح من الضروري تكثيف الجهود المحلية والدولية لمعالجة هذه الأزمة، سواء من خلال التوعية، أو إزالة هذه المخلفات، أو فرض ضغوط سياسية لإنهاء استخدامها، فالصمت عن هذه القضية يعني ترك آلاف الأطفال تحت رحمة الموت العشوائي، حيث يمكن لانفجار صغير أن يغير مصير حياة بأكملها.
كارثة تهدد حياة الأطفال
وقالت خبيرة حقوق الإنسان المغربية، فاطمة خيري، إن استمرار تأثير مخلفات الحروب على الأطفال في مناطق النزاع يشكل انتهاكًا صارخًا للحقوق الأساسية التي نصت عليها المواثيق الدولية، وأبرزها اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 التي تؤكد في مادتها السادسة على حق كل طفل في الحياة، كما تلزم الدول الأطراف باتخاذ جميع التدابير الممكنة لضمان بقاء الأطفال ونموهم، كما أن وجود ذخائر غير منفجرة وألغام في أماكن يسكنها الأطفال أو يلعبون فيها هو إخلال بهذه الالتزامات، ويضع مسؤولية مباشرة على الدول المتحاربة والمجتمع الدولي لضمان بيئة آمنة.
وتابعت فاطمة خيري، في تصريحات لـ"جسور بوست"، المبدأ الأساسي في القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا في البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، يؤكد ضرورة حماية المدنيين أثناء النزاعات، ومع ذلك، لا تنتهي هذه الحماية بانتهاء الحرب، بل تمتد لتشمل ما بعدها. في سوريا وحدها، قُتل أكثر من 31 طفلًا بسبب مخلفات الحرب منذ بداية عام 2025، وهو رقم يعكس استهانة الأطراف المتحاربة بالمسؤوليات القانونية والأخلاقية الملقاة على عاتقها، وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن الأطفال يشكلون نسبة مقلقة من إجمالي الإصابات الناتجة عن هذه المخلفات، ما يشير إلى فشل الأنظمة المحلية والدولية في إعمال الحق في الأمن والحماية.
واسترسلت، أن الطبيعة العشوائية لانتشار هذه المخلفات تجعل الأطفال الضحايا الأكثر تضررًا، فهم الأكثر فضولًا والأقل وعيًا بالخطر. اتفاقية أوتاوا لحظر الألغام المضادة للأفراد لعام 1997 تنص على ضرورة إزالة جميع الألغام في أقرب وقت ممكن، لكن واقع الحال يشير إلى أن العديد من الدول، بما في ذلك سوريا ولبنان وغزة، لم تتلق الدعم الكافي لتنفيذ التزاماتها بهذا الشأن. في غزة، حيث يقدر وجود آلاف الذخائر غير المنفجرة، يواجه الأطفال تهديدًا يوميًا من انفجارات مفاجئة، وسط غياب واضح لإجراءات وقائية فعالة.
وقالت فاطمة خيري، إن غياب آليات المساءلة يجعل هذه الانتهاكات تتكرر باستمرار، فالمادة 38 من اتفاقية حقوق الطفل تلزم الدول باتخاذ جميع التدابير لضمان عدم مشاركة الأطفال في النزاعات المسلحة، ولكنها تتضمن أيضًا التزامًا واضحًا بحمايتهم من الآثار غير المباشرة للحرب، وهو ما لا يتحقق في العديد من الدول التي شهدت نزاعات، حيث تبقى المناطق السكنية ملوثة بآثار الحرب لفترات طويلة في لبنان، ورغم مرور سنوات على آخر حرب مع الاحتلال الإسرائيلي، لا تزال مناطق الجنوب تعج بالقنابل العنقودية، وهو ما أدى إلى وقوع عشرات الحوادث، غالبيتها بين الأطفال.
وأشارت إلى أن التخلص من هذه المخلفات ليس ترفًا، بل واجب قانوني وأخلاقي، والطريقة المثلى تتطلب خطة شاملة تبدأ بالمسح الشامل لجميع المناطق المتضررة، ثم إزالة الذخائر وتدميرها وفقًا للمعايير الدولية، كما أن توعية المجتمعات، خاصة الأطفال، بمخاطر هذه المواد القاتلة يمكن أن يقلل من عدد الضحايا بشكل كبير، والتجارب الناجحة في دول مثل كمبوديا وأفغانستان أظهرت أن حملات التوعية المستمرة تساهم في تقليل الإصابات بنسبة تصل إلى 80%.
وشددت على أنه في ظل كل هذه التحديات، لا يمكن النظر إلى هذه القضية بمعزل عن مسؤولية الدول الكبرى، خاصة تلك التي تمد أطراف النزاعات بالسلاح، فإلقاء القنابل وتركها دون تنظيف لاحق هو انتهاك مزدوج: الأول عند استخدامها ضد المدنيين، والثاني عند الإهمال في إزالتها. المجتمع الدولي مطالب اليوم بالتحرك الفوري لضمان أن حقوق الأطفال في الحياة والأمان لا تبقى مجرد نصوص قانونية، بل تتحول إلى واقع ملموس، لأن استمرار الوضع الحالي يعني أننا أمام جريمة صامتة تُرتكب كل يوم بحق الأجيال القادمة.
المسؤولية القانونية لمخلفات الحروب
وقال الخبير القانوني والأكاديمي، عبدالله سعداوي، إن مخلفات الحروب تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني ولقواعد حماية المدنيين في النزاعات المسلحة، حيث تعدّ الأسلحة غير المنفجرة والألغام الأرضية من أخطر التهديدات التي تستمر في الفتك بالمدنيين، وخصوصًا الأطفال، حتى بعد انتهاء الأعمال العدائية، هذه الظاهرة تتعارض بشكل جوهري مع اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، التي تلزم أطراف النزاع باتخاذ كل التدابير الممكنة لحماية السكان المدنيين، لا سيما الفئات الأكثر ضعفًا.
وتابع سعداوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إحدى الإشكاليات القانونية الكبرى هي عدم التزام جميع الدول والجهات المسلحة غير الحكومية بهذه الاتفاقيات، ما يؤدي إلى استمرار انتشار هذه المخلفات في مناطق النزاع.
في سوريا، وقطاع غزة، ولبنان، واليمن، تُرِكت مساحات شاسعة ملوثة بمتفجرات قاتلة، تشكل تهديدًا دائمًا للأطفال الذين غالبًا ما يخطئون في التعرف عليها ويعاملونها كألعاب أو خردة معدنية، هذا الواقع يتناقض مع المادة 38 من اتفاقية حقوق الطفل، التي تلزم الدول الأطراف بضمان احترام قواعد القانون الإنساني الدولي المتعلقة بحماية الأطفال في النزاعات المسلحة.
واسترسل، المسؤولية القانونية تقع على عاتق الدول التي استخدمت هذه الأسلحة، وأيضًا على المجتمع الدولي الذي يجب أن يبذل جهودًا أكثر فاعلية لإزالة مخلفات الحرب والضغط من أجل محاسبة الجهات التي تتسبب في تلويث البيئات المدنية بهذه الأدوات القاتلة، ويجب على الدول أن تمتثل لالتزاماتها الدولية من خلال تنفيذ برامج فعالة لإزالة الألغام، وتقديم تعويضات للضحايا، ودعم برامج إعادة التأهيل النفسي والجسدي للأطفال المتضررين، كما أن مبدأ "جبر الضرر" المنصوص عليه في القانون الدولي يفرض على الدول تعويض الضحايا وإعادة تأهيل المناطق الملوثة لضمان بيئة آمنة للمدنيين.
وقال سعداوي، إن التخلص من هذه المخلفات يتطلب نهجًا قانونيًا وسياسيًا شاملًا يشمل تعزيز الاتفاقيات الدولية الخاصة بالأسلحة غير المنفجرة، وإلزام الدول بتبني تدابير وقائية مثل وضع علامات تحذيرية واضحة في المناطق المتضررة، وتثقيف المجتمعات المحلية، وتوسيع نطاق فرق إزالة الألغام بتمويل دولي كافٍ، كما يجب أن تكون هناك آليات مساءلة فعالة لمعاقبة الدول والجهات التي تواصل استخدام هذه الأسلحة المحظورة، حتى لا يستمر الإفلات من العقاب في تكريس معاناة المدنيين، وخاصة الأطفال الذين يدفعون الثمن الأعلى في صراعات لا يد لهم فيها.