التحرش بالأطفال بين تجريم القانون وتقصير المجتمع.. هل تكسر الدراما جدار الصمت؟

التحرش بالأطفال بين تجريم القانون وتقصير المجتمع.. هل تكسر الدراما جدار الصمت؟
برومو مسلسل "لام شمسية"

في زخم الدراما الرمضانية التي أصبحت منصة لمناقشة قضايا مجتمعية ملحة، يأتي مسلسل "لام شمسية" ليشعل جدلًا واسعًا حول قضية التحرش الجنسي بالأطفال. 

المسلسل الذي يعرض خلال النصف الثاني من رمضان 2025، قدم صورة صادمة للمجتمع، حيث تناول ظاهرة طالما سُكت عنها، ما أثار موجة من التأييد والانتقاد على حد سواء، فالبعض رأى أن الطرح كان جريئًا ويصب في مصلحة التوعية، في حين عد آخرون تجسيد طفل لدور الضحية قد يكون له تبعات نفسية عليه، وأن المشاهد قد تكون صادمة للجمهور.

وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، فإن ما يقرب من 120 مليون طفل حول العالم قد تعرضوا لشكل من أشكال التحرش الجنسي، وهو رقم مرعب يكشف حجم الأزمة. وفي الدول العربية، تفيد تقارير صادرة عن المجلس العربي للطفولة والتنمية بأن أكثر من 80% من حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال لا يتم الإبلاغ عنها، ما يجعل الظاهرة أكثر تعقيدًا في معالجتها، ففي مصر وحدها، تشير الإحصاءات الصادرة عن المجلس القومي للأمومة والطفولة إلى أن البلاغات حول التحرش بالأطفال ارتفعت بنسبة 35% في العامين الماضيين، وهو مؤشر خطِر يستدعي تدخلًا حاسمًا من الجهات المعنية.

يحكي "لام شمسية" قصة نيللي، التي تجسد شخصيتها الفنانة أمينة خليل، وهي معلمة في مدرسة يتردد عليها الطفل يوسف، الذي يجسد دوره الممثل الصغير علي البيلي، وهو ابن زوجها طارق الذي يؤديه الفنان أحمد السعدني الطفل يعاني اضطرابات نفسية غامضة تتكشف مع تصاعد الأحداث، ويُكشف لاحقًا عن تعرضه للتحرش، ما يضع المشاهد أمام مرآة الواقع المؤلم، وعقب عرض الحلقات الأولى، نشر مخرج العمل كريم الشناوي مقطع فيديو يوضح كيفية التعامل مع الطفل خلال التصوير، مؤكدًا أن سلامته النفسية كانت أولوية.

من جهتها، دعت المؤلفة مريم نعوم إلى عدم تحميل الطفل مسؤولية الدور الذي يجسده، مؤكدة أن الهدف هو طرح القضية بشكل يحترم الضحية ويحفز النقاش المجتمعي حولها.

 أزمة اجتماعية تتطلب حلولًا متعددة الأبعاد

من الناحية النفسية، يشير خبراء علم النفس إلى أن الطفل الضحية قد يعاني اضطرابات ما بعد الصدمة، مثل القلق المزمن، والاكتئاب، واضطرابات النوم، وانعدام الثقة بالنفس، حيث تشير دراسة حديثة نُشرت في مجلة "علم النفس الإكلينيكي" عام 2024 إلى أن 70% من الأطفال الذين تعرضوا للتحرش يعانون أعراض اضطرابات نفسية طويلة الأمد، ما يؤثر في حياتهم المستقبلية وتعاملهم مع المجتمع ويؤكد المختصون أن الكشف المبكر والدعم النفسي يمكن أن يساعد هؤلاء الأطفال على التعافي، لكن ذلك يتطلب بيئة داعمة وخالية من الوصم الاجتماعي.

على الصعيد القانوني، شهدت السنوات الأخيرة جهودًا متزايدة لتشديد العقوبات على مرتكبي هذه الجرائم، ففي مصر، صدر تعديل قانوني عام 2023 ينص على تغليظ عقوبة التحرش الجنسي بالأطفال لتصل إلى السجن المشدد لمدة لا تقل عن 10 سنوات، مع إمكانية زيادتها إلى المؤبد في حال تكرار الجريمة أو استخدام العنف. رغم هذه الجهود، لا تزال هناك فجوة بين التشريعات والتطبيق الفعلي، حيث تعوق عوامل مثل الخوف من الفضيحة والعادات الاجتماعية عمليات الإبلاغ، ما يجعل العديد من الجناة يفلتون من العقاب.

ويلعب الإعلام والدراما دورًا رئيسيًا في تشكيل الوعي حول قضايا حساسة كهذه، لكن تظل هناك تحديات تتعلق بطريقة الطرح، ويرى البعض أن معالجة قضايا التحرش بالأطفال في الدراما يجب أن تكون حذرة ومدروسة، بحيث تؤدي إلى زيادة الوعي دون أن تسبب صدمة نفسية أو إعادة إيذاء للضحايا، وقد أثار مسلسل "لام شمسية"، رغم أهميته، تساؤلات حول حدود الجرأة في تناول مثل هذه المواضيع، وهل يمكن أن تؤدي بعض المشاهد إلى نتائج عكسية، كالتطبيع مع الظاهرة بدلًا من محاربتها؟

من جهة أخرى، يرى المدافعون عن المسلسل أنه يمثل خطوة جريئة في تسليط الضوء على جريمة يتم التستر عليها في كثير من المجتمعات، فالصمت حول التحرش الجنسي بالأطفال هو أحد الأسباب الرئيسية لاستمراره، وبالتالي فإن كسر هذا الصمت عبر الفن والإعلام قد يكون أحد الحلول الفعالة على سبيل المثال. وقد كشفت دراسات أجرتها منظمة "أنقذوا الطفولة" أن التوعية المجتمعية عبر وسائل الإعلام تسهم في زيادة معدلات الإبلاغ عن التحرش بنسبة تصل إلى 40%، ما يعكس الدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه الدراما في دفع المجتمع نحو تغيير إيجابي.

ولكن يبقى السؤال المطروح: كيف يمكن تقديم هذه القضايا الحساسة بطريقة تحافظ على التوازن بين الجرأة والاحترام؟ فمن خلال المتابعة نرى بعض الأعمال الدرامية العالمية والعربية استخدمت تقنيات مثل السرد غير المباشر أو الاعتماد على ردود أفعال الشخصيات بدلًا من عرض المشاهد الصريحة، كما أن مشاركة مختصين نفسيين واجتماعيين في مراحل كتابة السيناريو يمكن أن يسهم في تقديم معالجة أكثر مهنية ومسؤولة.

وفي ظل تصاعد الجدل حول المسلسل، يبقى الأهم هو التركيز على القضية الجوهرية وهي حماية الأطفال من التحرش الجنسي، حيث يتطلب ذلك تعاونًا بين الأسر، المؤسسات التعليمية، الجهات الأمنية، والإعلام، كما أن المدارس يجب أن تلعب دورًا محوريًا في نشر ثقافة الوقاية وتعليم الأطفال كيفية حماية أنفسهم والتبليغ عن أي انتهاك يتعرضون له.

 وفي هذا السياق، أطلقت وزارة التربية والتعليم المصرية عام 2024 برنامجًا توعويًا في المدارس يشمل ورش عمل حول السلامة الجسدية، وقد أظهرت التقييمات الأولية لهذا البرنامج ارتفاعًا في وعي الأطفال حول حقوقهم بنسبة 60%.

البيدوفيليا: خطر يهدد الطفولة والمجتمع

يحذر خبراء علم النفس والاجتماع من تنامي ظاهرة البيدوفيليا، باعتبارها أحد أخطر التحديات التي تهدد الأطفال والمجتمع، إذ تتخذ أشكالًا متعددة، تراوح بين التحرش اللفظي والجسدي وصولًا إلى الاعتداء الجنسي الكامل، الذي يخلف آثارًا نفسية وجسدية مدمرة على الضحايا.

ويوضح الدكتور جمال فرويز، خبير علم النفس والأكاديمي لـ"جسور بوست"، أن اضطراب البيدوفيليا لا يقتصر على كونه مشكلة فردية، بل هو انعكاس لأزمات مجتمعية معقدة، تشمل العوامل النفسية والاجتماعية التي تؤثر في سلوك الأفراد، ويضيف أن أحد أبرز أسباب هذه الظاهرة هو تعرض الجاني نفسه للتحرش في طفولته، ما يجعله يحمل بداخله مشاعر انتقام غير واعية تدفعه إلى تكرار السلوك نفسه.

تشير الدراسات إلى أن نسبة كبيرة من المتحرشين كانوا ضحايا سابقين، ما يخلق دائرة مستمرة من الإساءة، تنتقل عبر الأجيال إذا لم يتم التدخل لمعالجتها، ويؤكد فرويز أن الأطفال الذين يتعرضون للتحرش غالبًا ما يعانون اضطرابات نفسية حادة، مثل القلق والاكتئاب والعزلة، وقد تصل آثار الصدمة إلى حد التفكير في إيذاء النفس أو الانتحار.

ويبرز أن المشكلة تتفاقم عندما يكون الجاني شخصًا من داخل الأسرة أو الدائرة المقربة للطفل، حيث تشير الإحصاءات إلى أن 80% من الجرائم تقع على يد أفراد مقربين، مثل أحد الأقارب أو المدرسين أو حتى العاملين في بيئة الطفل، ما يزيد من صعوبة كشف الجريمة والإبلاغ عنها.

في السنوات الأخيرة، بدأت بعض الأعمال الدرامية في تناول قضايا التحرش الجنسي بالأطفال، مثل مسلسل لام شمسية، الذي أثار جدلًا واسعًا حول كيفية معالجة هذه القضايا في الإعلام، ويشير فرويز إلى أن تناول الموضوع في الدراما أمر ضروري، لكنه يجب أن يكون متوازنًا بين كشف المشكلة وتقديم حلول واقعية لمعالجتها، حتى لا يقتصر التأثير على إثارة الجدل دون تحقيق وعي حقيقي.

غياب المجتمع المدني وتأثيره 

على الرغم من خطورة هذه الجرائم، يرى خبراء الاجتماع أن المجتمع المدني لا يؤدي دوره بالشكل المطلوب في التصدي لها، ويوضح الباحث في مركز كشف الجريمة للأبحاث الاجتماعية والجنائية فتحي قناوي لـ“جسور بوست” أن تناول القضية بشكل سطحي، دون تحليل أسبابها الجذرية أو تقديم حلول جذرية، قد يؤدي إلى تفاقمها بدلًا من الحد منها.

ويؤكد أن الانحدار الأخلاقي والتفكك الأسري يلعبان دورًا رئيسيًا في انتشار ظاهرة التحرش، إذ إن التربية السليمة تظل الحصن الأول لحماية الأطفال من هذه الجرائم، ويرى أن الحل لا يقتصر على القوانين الرادعة، بل يجب أن يشمل جهودًا متكاملة، بدءًا من التوعية الأسرية، مرورًا بالمناهج التعليمية، وانتهاءً بحملات مجتمعية وإعلامية توضح خطورة الظاهرة وتحث على مواجهتها.

ضعف تناول القضية يعمّق المشكلة

يؤكد الخبير الاجتماعي في مركز كشف الجريمة للأبحاث الاجتماعية والجنائية أن تسليط الضوء على هذه الظاهرة دون التعمّق في أسبابها الحقيقية أو اقتراح آليات فعالة لمواجهتها يسهم في تعزيزها وترسيخ آثارها داخل المجتمع.

وشدّد قناوي على أن الأخلاق هي الركيزة الأساسية لأي مجتمع سليم، فهي ليست مجرد سلوكيات فردية، بل منظومة متكاملة تؤثر في مختلف جوانب الحياة، ويرى الخبير أن التربية الأسرية تشكّل العامل الأول في ترسيخ القيم الأخلاقية لدى الأفراد، حيث يتشرّب الطفل معاييره السلوكية من بيئته العائلية قبل أي مؤثر آخر، وعندما تفقد الأسرة هذا الأساس القيمي، تنتشر الظواهر السلبية مثل التحرش، ما يهدد النسيج الاجتماعي بأكمله.

الإعلام والدراما بين التوعية والتشويش

على الرغم من الدور المهم الذي يلعبه الإعلام في مناقشة القضايا المجتمعية، إلا أن طريقة معالجتها قد تؤدي أحيانًا إلى تشويش الرأي العام، ويشير الخبير إلى أن بعض الأعمال الدرامية تكتفي بتسليط الضوء على المشكلة دون تقديم تحليل معمّق أو رؤية واضحة للحلول، ما يترك المشاهد في حالة من الإحباط دون توفير بدائل لمعالجة الظاهرة، ويؤكد قناوي أن الهدف لا يجب أن يقتصر على كشف المشكلة، بل يجب تقديم مقاربات شاملة تشمل التوعية، والإصلاح القانوني، والدعم النفسي والاجتماعي للضحايا.

وتابع، كما يُعدّ التراجع القيمي في المجتمع من أبرز العوامل التي تؤدي إلى انتشار التحرش، حيث تسهم المعاملات غير السويّة داخل الأسرة، والمدرسة، والمجتمع في تطبيع السلوكيات السلبية لدى الأفراد، ويشير الخبير إلى أن ضحايا التحرش غالبًا ما يعانون آثارًا نفسية حادة، مثل العزلة، فقدان الثقة بالنفس، وقد يصل الأمر إلى التفكير في الانتحار، في حين يشعر الجاني بالسيطرة، ما يزيد من خطر تكرار جرائمه.

على الرغم من أهمية دور المجتمع المدني في مكافحة التحرش، فإن هذا الدور ما زال شبه غائب، ما يزيد من تفاقم الأزمة، ويشدد الخبير على ضرورة تضافر جهود الدولة، والمؤسسات التعليمية، والإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، لرفع الوعي المجتمعي، ووضع استراتيجيات وقائية وعلاجية تحدّ من انتشار التحرش وتحمي الفئات الأكثر ضعفًا، مثل الأطفال والنساء، من هذه الجريمة.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية