بعد شطب سلاف فواخرجي.. مخاوف من استخدام المؤسسات الثقافية بسوريا لتصفية الحسابات

بعد شطب سلاف فواخرجي.. مخاوف من استخدام المؤسسات الثقافية بسوريا لتصفية الحسابات
الفنانة السورية سلاف فواخرجي

فجّرت نقابة الفنانين السوريين، عاصفة من الجدل بقرارها شطب عضوية الفنانة الشهيرة سلاف فواخرجي من سجلاتها، في خطوة وُصفت بأنها تمثل منحىً حاداً في تسييس المؤسسات الثقافية في سوريا، ورغم أن القرار استند -كما ورد في بيان النقابة- إلى المادة 58 من القانون رقم 40 بدعوى "الإخلال بأهداف النقابة"، فقد تجاوزت أصداؤه الأبعاد الإدارية إلى مشهد سياسي متوتر، حيث اتُّهمت فواخرجي بـ"إنكار الجرائم الأسدية" والتقليل من معاناة الضحايا.

وأكد بيان النقابة، التي يترأسها حالياً مازن الناطور، أن القرار يأتي بسبب "تصريحات مستفزة" أدلت بها فواخرجي، تتعلق بإنكار مجزرة الكيماوي في الغوطة، وعدم إدانة القصف بالبراميل، ما عدّه البعض إساءةً مباشرة لضحايا الحرب السورية، غير أن معارضين للقرار رأوا فيه استمراراً لنهج قمعي بدأ خلال رئاسة النقيب الراحل زهير رمضان، حيث شُطبت عضويات فنانين بارزين مثل مكسيم خليل ويارا صبري وجمال سليمان لمواقفهم السياسية المعارضة.

وكشف القرار عمق الاختلال في البنية المؤسسية للعمل النقابي الفني في سوريا، حيث تحوّلت النقابة من مؤسسة يفترض بها حماية الفنان والدفاع عن حقوقه، إلى جهة رقابية تفصل وتمنح الشرعية وفق الولاء السياسي، إذ بدلاً من التركيز على مشكلات الفنانين من حيث الأجور المتأخرة أو عقود العمل المجحفة، أصبحت النقابة ساحة لتصفية الحسابات.

ورغم استناد القرار إلى نص قانوني يسمح بالشطب في حال "الإضرار بسمعة النقابة"، فإن التفسير ظل فضفاضاً، واستخدم لسنوات أداةً لعزل الأصوات المعارضة، ففي حين سُمح لفنانين مؤيدين للنظام بالبقاء ضمن النقابة رغم تصريحات مثيرة للجدل، فُصل الفنانون المعارضون بحجج إدارية مثل "عدم تسديد الاشتراكات".

خلفيات سياسية مريبة

يأتي هذا القرار في ظل متغيرات سياسية لافتة، إذ سبق للنقابة أن أعادت قيد عدد من الفنانين المفصولين في ديسمبر الماضي، في محاولة فُهمت كمصالحة شكلية أو إعادة تموضع سياسي، ما يعكس طبيعة التقلبات في المواقف الرسمية للنقابة تبعاً للظرف السياسي لا المهني.

وتشير أرقام "المركز السوري لبحوث السياسات" إلى تراجعٍ خطِر في القطاع الثقافي: نسبة البطالة بين الفنانين السوريين تجاوزت 70% في مناطق سيطرة النظام، وتقلّص عدد الأعمال الدرامية من 54 عملاً في عام 2010 إلى أقل من 12 عملاً في 2022، كما اضطر أكثر من 60% من الفنانين إلى الهجرة أو العمل بمهن أخرى بسبب غياب الاستقرار وتهديدات الأمن وانخفاض الأجور.

ولا تُظهر نقابة الفنانين أي دور فعلي في الدفاع عن العاملين في القطاع، فلا بيانات عن الانتهاكات، ولا إحصاءات محدثة عن سوق الإنتاج، ولا خطط لتأهيل المواهب الشابة أو مواكبة التحولات الرقمية، كل ذلك يعكس فشلاً ذريعاً في أداء مؤسسة يفترض بها أن تكون حاضنة للإبداع.

ويتضح من هذه القضية أن نقابة الفنانين السوريين باتت مرآة للمشهد السوري الأكبر، حيث تُقمع الحريات، وتُدار المؤسسات على أساس الولاء السياسي لا الكفاءة، ويثير شطب فواخرجي، رغم أنه موجّه لفنانة بعينها، تساؤلات أوسع حول مستقبل الفن والثقافة في بلد يعيش منذ أكثر من عقد تحت وطأة الحرب والتضييق.

شطب فواخرجي عقاب سياسي

قالت الناقدة الفنية هويدا الحسن، إن قرار شطب عضوية سولاف فواخرجي من نقابة الفنانين السوريين لا يمكن فهمه إلا بوصفه خطوة سياسية مغلّفة بلغة قانونية ونقابية هشّة، تخفي خلفها توجهاً واضحاً نحو تكميم الأفواه وتقييد حرية التعبير، غياب أي مسوغ قانوني مفصل أو بيان رسمي يتضمن حيثيات القرار، يعزز فرضية أن الأمر لا يستند إلى مخالفة مهنية مثبتة أو إخلال واضح بأهداف النقابة، بل إلى موقف شخصي أو سياسي يُراد إسقاطه على صاحبة رأي.

وأضافت الحسن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، سولاف فواخرجي، وإن كانت فنانة، إلا أنها أيضاً رمز ثقافي بارز ومؤثرة في المشهد الفني العربي، وشطب اسمها بهذه الطريقة التعسفية، دون جلسة استماع علنية أو تحقيق مهني شفاف، يعد سابقة خطِرة، وانزلاقاً واضحاً في مسار المؤسسات النقابية من دورها المفترض كحاضنة للمبدعين، إلى أداة قمع تستخدمها جهات ذات خلفية سياسية لتصفية حساباتها مع كل صوت مختلف أو غير مطيع.

وترى الحسن، أن هذا القرار يشكّل انتهاكاً صارخاً للحق في حرية التعبير المكفول بالمواثيق الدولية، وعلى رأسها "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية"، مؤكدة أن نقابة الفنانين السوريين لم تعد اليوم تمثل الفنانين قدر ما باتت تمثل سلطات الأمر الواقع، وهو ما ينسف مبدأ استقلالية العمل النقابي من جذوره.

وعن تأثير القرار على صورة النقابات الفنية في سوريا، أكدت الحسن، أن مثل هذه الإجراءات تُعمّق الشعور العام بأن هذه النقابات باتت تدار بمنطق أمني أكثر منه نقابيًا. وأضافت أن النقابة، بدلاً من أن تكون مساحة حرة للدفاع عن حقوق الفنانين ورعاية مصالحهم، تحوّلت إلى ذراع رقابية تنفذ أجندات سلطوية وتستخدم صلاحياتها في معاقبة الفنانين الذين يخرجون عن "النص السياسي المسموح".

ويشوه هذا السلوك، بحسب الحسن، جوهر العمل النقابي ويحوله من فضاء حر إلى مساحة خاضعة للرقابة والعقاب، الأمر الذي يقوّض ثقة الفنانين بمؤسساتهم، ويدفع بالكثير منهم إلى الانزواء أو الهجرة أو حتى التوقف عن الإنتاج الإبداعي خوفاً من التبعات.

وأشارت الحسن إلى أن الرسالة الضمنية التي يحملها قرار شطب فنانة بمكانة سولاف فواخرجي واضحة وصادمة في آن: "لا حصانة لأحد أمام مقصلة السلطة"، وهذا من شأنه أن يزرع ثقافة الخوف والرقابة الذاتية داخل الوسط الفني، حيث يبدأ الفنانون بممارسة رقابة على أنفسهم، متجنبين الخوض في مواضيع قد تُفسر سياسياً، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تراجع حرية الإبداع وانكماش في الإنتاج الجريء والنقدي.

وأضافت أن هذه الثقافة القمعية، المتغلغلة في جسد المؤسسات النقابية، لا تقتل الإبداع فقط، بل تُقصي كل فنان يجرؤ على الخروج من العباءة الرسمية، مشيرة إلى أن النتيجة النهائية هي مشهد فني باهت، لا يعبّر عن هموم الناس، ولا يحمل تطلعاتهم، بل يكرّس واقعاً محكوماً بالخوف والامتثال.

وفي ظل غياب آليات قضائية نزيهة للطعن في قرارات كهذه، ترى الحسن أن الفنانين السوريين لا يملكون اليوم إلا أسلحتهم المعنوية والأخلاقية في مواجهة هذه الانتهاكات. وتشير إلى أن التضامن المهني، والضغط الشعبي، والمناصرة الإعلامية، والدعم الدولي، كلها أدوات يمكن اللجوء إليها للوقوف في وجه هذه الانحرافات الخطيرة.

وأضافت أن المرجعيات الدولية، رغم كونها غير قابلة للتطبيق المحلي بشكل مباشر، تشكل سنداً قانونياً يمكن للفنانين الاستناد إليه في خطابهم، مؤكدة أن استمرار الضغط من خارج الإطار الرسمي ربما يفتح ثغرات في الجدار المغلق للنقابة، ويعيد النقاش حول ضرورة إصلاحها من الداخل، لتتحول من مؤسسة عقابية إلى فضاء للحرية والدفاع عن الإبداع.

وأكدت الحسن أن ما حدث مع فواخرجي ليس قضية فردية، بل يمس كرامة الفن السوري برمته، ويمثل مؤشراً خطِراً على تدهور الحريات في سوريا، داعية إلى إعادة الاعتبار لقيمة الرأي الحر، والنضال من أجل تحرير المؤسسات الثقافية من سطوة السياسة.

خسارة فنية ووطنية

قالت الناقدة الفنية رحاب الغطريفي، إن قرار شطب الفنانة السورية سلاف فواخرجي من نقابة الفنانين السوريين، لا يمكن فهمه إلا في سياق الإقصاء الممنهج الذي يمارسه النظام السوري ضد كل صوت مستقل أو فني حر، مشيرة إلى أن فواخرجي ليست مجرد ممثلة عابرة، بل فنانة من الطراز الرفيع، تمتلك رصيداً فنياً وإنسانياً وثقافياً قلّ نظيره في المشهد العربي.

وأضافت الغطريفي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، سلاف فواخرجي من القلائل الذين يمثلون بأعينهم، بحواسهم، وبقلبهم قبل كلماتهم، فهي فنانة مثقفة وواعية، تحمل في أدائها صدقاً نادراً يجعل من كل شخصية تؤديها حياةً كاملة نابضة. واستحضرت في حديثها بعضاً من أهم أدوارها التي تركت أثراً كبيراً في الدراما العربية، لا سيما في مسلسل "ملوك الطوائف"، حيث جسدت شخصية مركبة ببراعة، وكذلك في "أسمهان"، المسلسل الذي وصفته بأنه "واحد من أفضل الأعمال السير ذاتية التي شهدتها الدراما العربية، وأحدث عند عرضه حالة استثنائية على مستوى الأداء والإخراج والرؤية الفنية".

وتساءلت الغطريفي: "كيف يمكن لنقابة من المفترض أنها تمثل الفنانين وتحمي حقوقهم أن تقدم على شطب واحدة من أبرز نجماتها من دون محاكمة مهنية عادلة أو تبيان موضوعي للأسباب؟"، مشيرة إلى أن ما حدث لا يمكن وصفه إلا بأنه ظلم فج وانتهاك لحق فنانة في أن تكون حاضرة ومُعترفًا بها في وطنها.

وترى الغطريفي أن القضية ليست مجرد قرار إداري من نقابة، بل تعبير صارخ عن طبيعة النظام الحالي في سوريا، الذي بات يتعامل مع الفن والثقافة كتهديد ينبغي ترويضه أو التخلص منه.

ورغم قتامة المشهد، أكدت الغطريفي أن سلاف فواخرجي ليست بحاجة إلى اعتراف النقابة السورية بها كي تستمر في عطائها الفني، فهي، بحسب تعبيرها، "فنانة صاحبة رصيد فني كبير، يكفيها لتظل حاضرة في وجدان الناس، حتى لو تم تغييبها مؤسسياً".

وفي ما بدا رسالة تضامن، أعلنت رحاب الغطريفي ترحيبها الكامل بسلاف فواخرجي في مصر، مؤكدة أن "مصر كانت وستظل البيت الكبير لكل الفنانين العرب، وخصوصاً لمن ضاقت بهم السُبل في أوطانهم"، مضيفة: "نحن نرحب بها هنا، ليس فقط لأنها فنانة عظيمة، بل لأنها إنسانة صادقة وواعية، ومصر تعرف جيداً كيف تحتضن مبدعيها ومبدعي الأمة كلها".

وختمت الغطريفي تصريحها، قائلة: "أتمنى ألا يستمر هذا الوضع في سوريا، حيث يُقمع الفن، وتُقصى القامات، وتُغتال الأصوات النزيهة، ما يحدث الآن لا يليق بتاريخ سوريا الثقافي، ولا بتاريخها الفني العريق، وعلى الجميع أن يعي أن خسارة فنانة مثل سلاف فواخرجي ليست مجرد خسارة فردية، بل ضربة مؤلمة لذاكرة الفن والوجدان السوري والعربي معاً".

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية