"حين يصبح الغذاء ورقة تفاوض".. دعوات لتحرير المساعدات من الابتزاز السياسي في غزة

بين الجوع والمساومة

"حين يصبح الغذاء ورقة تفاوض".. دعوات لتحرير المساعدات من الابتزاز السياسي في غزة
فلسطينيون بين الأنقاض في غزة

يدفع الإغلاق الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من ثلاثة أشهر للمعابر الحدودية مع قطاع غزة، ومنع دخول المساعدات الإنسانية، بالأوضاع في القطاع إلى شفا كارثة إنسانية غير مسبوقة، وسط تصاعد المخاوف من اتساع رقعة المجاعة. 

وبينما تُطرح مبادرات دولية لإنهاء الأزمة مؤقتًا، لا تزال الحياة اليومية لمليوني فلسطيني تُدار تحت ضغط الجوع، والعجز عن الوصول للغذاء والدواء، وسط صمت دولي متواطئ.

وفي ظل انسداد الأفق السياسي، يحذّر خبراء في القانون الدولي والشأن السياسي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، من استمرار استخدام المساعدات الغذائية كأداة ضغط ومساومة سياسية من قبل إسرائيل، معتبرين أن تل أبيب تتعامل مع الأزمة كجزء من استراتيجية العقاب الجماعي، توازي هدفها المعلن في استعادة الرهائن.

ويؤكد هؤلاء أن الجهة الجديدة المسؤولة عن توزيع المساعدات –والتي أُنشئت عقب حظر وكالة "الأونروا"– باتت، بحسب تعبيرهم، "مصيدة للموت"، نظرًا لما شهدته من مجازر استهدفت المدنيين الجوعى، مطالبين بعودة الأونروا إلى العمل فورًا، ورفع الحظر عنها لضمان استجابة إنسانية محايدة.

الفصل بين المساعدات والمفاوضات

وفي مؤتمر صحفي عقده الاثنين في الدوحة، قال المتحدث باسم الخارجية القطرية، ماجد الأنصاري، إنه لا توجد حاليًا مفاوضات نشطة لوقف إطلاق النار، بل مجرد "اتصالات أولية لإعادة إطلاق المسار التفاوضي"، داعيًا إلى "الفصل بين المسار التفاوضي والمسار الإنساني".

وقال الأنصاري: "مستمرون في الضغط من خلال شركائنا لضمان دخول المساعدات دون شروط أو مساومة"، والموقف ذاته أكده وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، خلال اتصال هاتفي مع المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف، حيث شدد على "أهمية استئناف وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن كخطوة أولى لاستدامة التهدئة"، إلى جانب الإسراع بإدخال المساعدات الإغاثية والطبية في ظل التدهور الحاد للوضع الإنساني.

وفي تصريحات متلفزة سابقة، كشف عبد العاطي أن المقترح المطروح حاليًا يتضمن هدنة لمدة 60 يومًا تشمل تبادل أسرى وضمان تدفق المساعدات، على أن تُستأنف بعدها المفاوضات حول اتفاق دائم، في إطار خطة أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي كرر خلال الأيام الماضية توقعاته بقرب التوصل إلى اتفاق شامل.

قلق أوروبا وضغط إسرائيل

ويتسع الاهتمام الدولي بالكارثة الإنسانية، حيث عبرت وزيرة الخارجية النمساوية، بياته ماينل-رايزينجر، من القدس، عن "قلق بالغ" من تدهور الوضع الإنساني في غزة، ووصفت المعاناة المتفاقمة بأنها "لا تُحتمل"، محذرة من أن "استمرار هذا الوضع قد يُضعف علاقة إسرائيل بالاتحاد الأوروبي".

وأضافت الوزيرة النمساوية، خلال مؤتمر صحفي مع نظيرها الإسرائيلي جدعون ساعر، أن "معاناة المدنيين في غزة يجب أن تتوقف"، داعية إلى "وقف فوري لإطلاق النار، والسماح بتدفق المساعدات دون انقطاع"، كما طالبت بالإفراج عن الرهائن المحتجزين لدى حماس دون شروط.

في الوقت ذاته، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إحصائية جديدة صادمة، حيث بلغ عدد الضحايا الذين لقوا حتفهم خلال محاولتهم الوصول إلى المساعدات منذ بدء توزيعها من المراكز المعروفة شعبيًا بـ"مصائد الموت"، 580 شهيدًا، و4216 جريحًا، و39 مفقودًا منذ 27 مايو 2025.

وأدان المكتب ما وصفه بـ"الجرائم الإسرائيلية المستمرة ضد الجوعى المدنيين"، محملاً السلطات الإسرائيلية، إلى جانب الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، المسؤولية الكاملة عن ما وصفه بـ"المشاركة في الإبادة الجماعية"، وطالب بـ"تدخل دولي عاجل لفتح المعابر، وكسر الحصار، وضمان تدفق المساعدات فورًا.

تحرير المساعدات من التسييس

ويرى خبراء أن حل الأزمة الإنسانية في قطاع غزة يبدأ بـ"تحرير المساعدات من الحسابات العسكرية"، إذ يقول الكاتب والمحلل السياسي طارق أبو زينب لـ"جسور بوست" إن "المساعدات أصبحت رهينة التفاوض السياسي"، داعيًا إلى إنشاء ممرات إنسانية محمية بإشراف دولي، مع عودة الأونروا إلى عملها باعتبارها الجهة الوحيدة القادرة على التوزيع العادل والفعال بعيدًا عن التلاعب السياسي.

وأضاف أبو زينب: "لا يمكن معالجة كارثة إنسانية بهذا الحجم دون مؤسسات شرعية تحظى بثقة الناس. الأونروا ليست مجرد منظمة إغاثية، بل جزء من بنية الاستقرار الاجتماعي الفلسطيني".

وفي هذا السياق، قال إن المساعدات الإنسانية في غزة "باتت رهينة بيد الأطراف المتنازعة، وخاصة إسرائيل، التي تستخدمها كورقة ضغط ضمن المفاوضات السياسية"، مشددًا على أن تحرير هذا الملف يتطلب ممرات آمنة وشفافة تحت إشراف دولي نزيه، تضمن وصول الإغاثة مباشرة إلى المستحقين، دون تعقيدات أو عراقيل بيروقراطية أو أمنية.

وأضاف أبو زينب، أن هناك حاجة ملحّة لدور فاعل من الوسطاء الدوليين، لا سيما مصر وقطر، لضمان التزام جميع الأطراف بشروط الهدنة، وتسهيل تدفق المساعدات دون استخدامها كورقة مساومة سياسية.

كما أشار إلى أن عودة وكالة الأونروا إلى ممارسة دورها الطبيعي تمثل مسارًا ضروريًا لإعادة التوازن للمنظومة الإنسانية في القطاع، معتبرًا أن الأونروا "ليست مجرد جهة إغاثية، بل ركيزة أساسية للاستقرار المجتمعي والإنساني، رغم ما تتعرض له من ضغوط سياسية وهجمات تمويلية متعمدة".

وأكد أن "تحرير المساعدات الإنسانية من السيطرة السياسية ليس فقط ضرورة أخلاقية، بل مسؤولية دولية عاجلة"، مشددًا على أن استمرار استخدام معاناة المدنيين كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية يُشكل انحدارًا خطِرًا في المعايير الإنسانية الدولية.

جريمة مكتملة الأركان

من جانبه، يؤكد الدكتور أمجد شهاب، أستاذ القانون الدولي بجامعة القدس، أن "ما تقوم به إسرائيل والولايات المتحدة من منع دخول المساعدات بعد حظر الأونروا يُعد استخدامًا للمجاعة كسلاح"، معتبرًا أن الجهة البديلة لتوزيع الإغاثة تعمل بلا رقابة أو شفافية، وتشارك فعليًا في جريمة عقاب جماعي ضد المدنيين.

وأضاف شهاب لـ"جسور بوست": "وفقًا للقانون الدولي، استخدام الغذاء والدواء كسلاح في النزاع المسلح يُعد جريمة حرب. وما يجري في غزة اليوم هو تجويع متعمد ممنهج، يهدف إلى فرض استسلام سياسي عبر المجاعة".

وشدد على أن وقف إطلاق النار لا يمكن أن ينفذ دون ضمانات فورية بإدخال المساعدات، داعيًا إلى "فصل المسار الإنساني عن العسكري"، وإلى الضغط الدولي من أجل إنهاء الحصار وإعادة تفعيل الدور الأممي الكامل في غزة.

في ظل استمرار الحصار الخانق على قطاع غزة، تزداد الأصوات المطالبة بفصل المساعدات الإنسانية عن التفاهمات السياسية والعسكرية، محذرة من تحوّل الغذاء والدواء إلى أدوات ابتزاز وجزء من استراتيجية الحرب الممنهجة ضد السكان المدنيين.

وأوضح أن هذا النهج يكشف نية مسبقة لدى واشنطن وتل أبيب لـ"هندسة فوضى إنسانية بعد مرحلة المجاعة، بما يخدم الأجندة السياسية والعسكرية الإسرائيلية"، وهو ما يتجاوز حدود السياسة إلى تصفية منظمة وممنهجة لحقوق الإنسان الأساسية.

وشدد شهاب على أن القانون الدولي يجرّم استخدام المساعدات الإنسانية كأداة ضغط، معتبرًا أن منع الغذاء والدواء عن المدنيين بهدف تحقيق أهداف عسكرية أو سياسية يمثل جريمة دولية لا تسقط بالتقادم.

كما أكد أن وقف إطلاق النار لا يمكن أن يكون فعّالاً دون إنهاء الحصار وفتح المعابر بشكل فوري، داعيًا إلى تمكين المنظمات الإنسانية المستقلة من العمل دون قيود، وفصل المسار الإنساني عن النزاع العسكري، كما طالب المجتمع الدولي بـ"إجبار إسرائيل على احترام القانون الدولي، وإعادة الاعتبار لدور الأونروا التي كان حظرها أحد المحركات الرئيسية لتسارع المجاعة وانتشار الفوضى داخل القطاع".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية