صوت الأمهات أداة ردع.. كيف يمكن للوعي المجتمعي أن يقف سداً أمام التحرش الجنسي بالأطفال؟

صوت الأمهات أداة ردع.. كيف يمكن للوعي المجتمعي أن يقف سداً أمام التحرش الجنسي بالأطفال؟
أم مع طفلتها- أرشيف

الوعي المجتمعي بقضايا التحرش الجنسي، خاصة ضد الأطفال، بات أمراً بالغ الأهمية في ظل تزايد حالات الاعتداء التي تكشف عنها وسائل الإعلام، والقصص التي ترد من الأسر والأطفال أنفسهم، وأصبح التحدث عن هذه القضايا أحد ضروريات العصر التي لا يمكن إغفالها، حيث إن الصمت عنها يفتح المجال لانتشار هذه الجرائم ويقلل من فرص الوقاية والعلاج. 

في هذا السياق، يبرز دور الأمهات بشكل خاص في حماية أطفالهن، وهو دور يتطلب مزيجاً من الوعي والفهم والاستعداد النفسي لمواجهة هذا التحدي الكبير، والذي يتضمن تقديم وسائل حماية ومواجهة فعّالة. 

تكمن أهمية دور الأم في قدرتها على توعية طفلها، وتعليمه كيفية الوقاية من التحرش، وكيفية التصرف في حال تعرضه لأي اعتداء جنسي.

في الآونة الأخيرة، أثارت واقعة تحرش بطفل داخل مدرسة في دمنهور موجة من الغضب على منصات التواصل الاجتماعي في مصر، بعد أن تم تداول أنباء عن تعرض طفل في السادسة من عمره لاعتداء جنسي من قبل موظف مسن بالمدرسة، وما يزيد من مأساوية الحادث هو أن الطفل كان يعاني من أعراض جسدية تشير إلى تعرضه لاعتداء جنسي متكرر، وهو ما تم تأكيده بعد الكشف الطبي، حيث تبين وجود تهتك في الأنسجة. 

ضعف آليات الحماية

وتعكس هذه الواقعة مدى ضعف آليات الحماية في المؤسسات التعليمية، التي من المفترض أن تكون بيئة آمنة للأطفال، وتطرح تساؤلات مهمة حول مستوى الوعي لدى الأمهات والأسرة والمجتمع بشكل عام حول كيفية حماية الأطفال من هذا النوع من الاعتداءات.

يعد التحرش الجنسي ضد الأطفال من الجرائم التي لا تقتصر آثارها على الأضرار الجسدية فحسب، بل تمتد لتشمل تدمير الجانب النفسي والعاطفي للطفل، وتوضح الإحصاءات المتوفرة من مختلف المنظمات الحقوقية والصحية حجم الفجوة التي تعيشها معظم المجتمعات في الوعي بتلك القضايا، وبحسب تقرير "اليونيسف" لعام 2021، فإن نحو 30% من الأطفال حول العالم يتعرضون لأشكال من الاعتداء الجنسي قبل بلوغهم سن 18 عاماً، هذه النسبة لا تقتصر على منطقة معينة أو ثقافة معينة، بل هي مشكلة عالمية تتطلب تضافر الجهود بين الأمهات والمجتمعات المحلية والمؤسسات الحكومية من أجل القضاء على هذا الفعل البشع.

وفي ما يتعلق بمصر، تزايد الاهتمام بقضية التحرش الجنسي بالأطفال في السنوات الأخيرة، حيث أظهرت دراسة قامت بها "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" أن 17% من الأطفال في مصر قد تعرضوا للتحرش الجنسي بشكل أو بآخر إلا أن هذه الإحصائيات تعكس فقط الحالات التي تم الإبلاغ عنها، في حين أن العديد من الحالات لا تُذكر أو يتم تجاهلها من قبل الضحايا أو أهاليهم نتيجة للوصمة المجتمعية أو الخوف من العواقب.

تغيير ثقافة التعامل

وتشير هذه الإحصائيات إلى أن المجتمع بحاجة ماسة لتغيير ثقافة التعامل مع هذه القضايا، والتعامل معها بشكل جاد ومسؤول، بداية من الأسرة، مروراً بالمدارس، وصولاً إلى المؤسسات الحكومية والعدلية، فالوعي بقضية التحرش الجنسي لا يتوقف عند مجرد الوقاية، بل يجب أن يتعداه ليشمل كيفية التعامل مع الطفل الضحية بعد وقوع الحادث، وما يجب على الأسرة والمجتمع القيام به لمساعدته في التعافي من هذه التجربة القاسية، وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها بعض المنظمات الحكومية والمدنية لمكافحة هذه الظاهرة، فإن غياب الثقافة المناسبة في التربية والتعليم لا يزال يعد حجر عثرة أمام تكامل الحلول.

من الأمور الأساسية التي يجب أن تركز عليها الأمهات في هذا الصدد هو تعليم الطفل عن "حدوده الجسدية"، أي أن كل طفل يجب أن يعرف أن جسده ملك له فقط، وأنه يجب أن يكون على دراية تامة بأن هناك مناطق في جسده لا يجب أن يلمسها الآخرون، حتى وإن كان ذلك تحت أي ظرف من الظروف. وهذه المعرفة تشكل الأساس الذي يتم من خلاله بناء الفهم السليم للقضية.

 وقد أظهرت إحدى الدراسات التي أجرتها "جمعية حماية الطفل" في الولايات المتحدة أن الأطفال الذين يتم تعليمهم كيفية حماية أنفسهم من التحرش تكون لديهم قدرة أكبر على التعرف على المواقف الخطيرة والتصرف بشكل صحيح عند التعرض لهجوم.

علاوة على ذلك، يجب على الأمهات أن يشجعن أطفالهن على إخبارهن بأي تصرف يشعرهم بالانزعاج أو بالخوف، وتذكيرهم دائماً بأنهم في حال تعرضهم لأي تحرش، فإنهم لن يتعرضوا لأي عقوبات أو توبيخ، بل سيحصلون على الدعم الكامل منهم، فالتواصل الفعّال مع الطفل وخلق بيئة تشجع على الحوار المفتوح هو أمر ضروري، حيث إن الأطفال في الغالب لا يستطيعون التحدث عن الحوادث التي يتعرضون لها خوفاً من عدم تصديقهم أو من العواقب التي قد يواجهونها.

ويرى خبراء ومختصون وجوب تبني الحكومة إجراءات قانونية لحماية الأطفال بشكل أكثر فعالية، وهذا يتطلب تطوير التشريعات المتعلقة بالعنف الجنسي ضد الأطفال، بالإضافة إلى تحسين سياسات تنفيذ القانون، ومن الأهمية بمكان أن يتم تعزيز آليات الإبلاغ عن الجرائم بشكل سري وآمن، بحيث يشعر الأطفال وأسرهم بالثقة في تقديم الشكاوى دون خوف من الانتقام أو العواقب.

وفي سياق ذلك، لا يمكن التغاضي عن أهمية الدعم النفسي للأطفال الذين قد تعرضوا للتحرش الجنسي، فالتعامل مع الطفل الضحية يتطلب منهجاً متكاملاً يبدأ من التحقق من الواقعة ويشمل الدعم العاطفي والنفسي المستمر، ولا بد من وجود مراكز متخصصة تقدم العلاج النفسي للأطفال الضحايا، حيث أظهرت دراسة أجراها مركز "تحقيق حقوق الطفل" أن الدعم النفسي الفوري يمكن أن يقلل بشكل كبير من الأضرار النفسية الطويلة الأمد التي قد يواجهها الطفل، وهذه الخدمات يجب أن تكون ميسرة وسهلة الوصول، وتوفر الدعم لجميع الأطفال بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.

التربية الواعية تبدأ من البيت 

شدد أستاذ علم الاجتماع بجامعة الأزهر الدكتور طه أبوحسين على أهمية التوعية الجنسية للأطفال بأسلوب تربوي هادئ ومدروس، بعيداً عن العبارات الصادمة أو التوجيهات المباشرة التي قد تزرع الخوف وتربك الطفل، ورأى أن التصريحات من نوع "لا تسمح لأحد بالتحرش بك" قد تكون غير مناسبة إلا في حالات نادرة، مثل واقعة التحرش الأخيرة في محافظة البحيرة، معتبراً أن الأسلوب الأنسب هو التثقيف غير المباشر.

أوضح أبوحسين في حديثه لـ"جسور بوست"، أن الإطار الصحيح يقوم على بناء منظومة تربوية متكاملة، تُعرّف الطفل بما هو مناسب وغير مناسب من خلال سلوكيات يومية بسيطة، ودعا إلى تعليم الأطفال أن اللعب مع الكبار أو الركوب على الأكتاف أو النوم على البطن ليست أفعالاً مقبولة، وأن لهم حدوداً جسدية يجب احترامها، وهذا الفهم يعزز وعي الطفل بمفهوم "المساحة الشخصية"، ويمنحه أدوات مبكرة لكشف أي انتهاك محتمل.

أكد أبوحسين أهمية المتابعة النفسية الدقيقة للطفل، ومراقبة أي تغيّرات سلوكية قد تشير إلى تعرضه لتجربة غير مألوفة، ونبّه إلى أن أعراضاً مثل التوتر أو الانعزال أو حتى علامات جسدية غير مبررة، يجب أن تكون دافعاً لفتح حوار هادئ مع الطفل، دون ترويع أو لوم، حفاظاً على ثقته وأمانه.

البيت والمدرسة.. حائط الصد الأول

دعا أبوحسين الأهل إلى التأكد من البيئة المدرسية قبل إلحاق أبنائهم بأي مؤسسة تعليمية، بما في ذلك شخصية المعلمين وطريقة تعاملهم مع الأطفال، وأشار إلى أن وجود بيئة آمنة وأشخاص ذوي أخلاق هو جزء من الحماية المجتمعية الأساسية.

أبرز أبوحسين أهمية دور الإعلام والمجتمع المدني في توعية الجمهور ونشر ثقافة حماية الطفل، وأكد أن تقديم قصص واقعية ونماذج إيجابية في الإعلام من شأنه أن يفتح نقاشاً صحياً حول سبل الوقاية والتعامل مع حوادث التحرش، بدلاً من طمسها بالصمت.

الاحتضان قبل العقاب.. والوعي قبل اللوم

وفي السياق، قال الدكتور محمود شوقي، أخصائي الطب النفسي للأطفال في حديثه لـ"جسور بوست"، إن الطفل المتعرض لتحرش لا يحتاج سوى الأمان والتصديق والعلاج، واعتبر أن المدارس يجب أن تتحول إلى مؤسسات حماية متكاملة، من خلال وجود أخصائيين نفسيين، وبرامج توعوية، وسياسات صارمة تردع المعتدين.

وصمة تلاحق المجتمع

وبدورها، صفت الخبيرة الحقوقية والناشطة النسوية أسماء رمزي جريمة التحرش الجنسي بالأطفال بأنها وصمة تلاحق المجتمع قبل أن تُدمّر براءة الضحية، وأكدت أن التستر أو الصمت أو الخوف من "الفضيحة" يُمثل تواطؤاً غير مباشر، يسمح للجناة بالاستمرار في انتهاكاتهم.

وأشارت رمزي في حديثها لـ"جسور بوست"، إلى أن آثار التحرش لا تقتصر على الجسد، بل تمتد إلى أعماق نفس الطفل، فتُهشّم إحساسه بالأمان وثقته بنفسه وبالآخرين. واعتبرت أن الحديث الصريح عن هذه الجريمة أصبح ضرورة أخلاقية لا يمكن تأجيلها، وأن تأخر المواجهة يُفاقم حجم الألم.

ولفتت رمزي إلى أن كثيراً من الأمهات في مصر يعانين من نقص في الأدوات التربوية والنفسية، ويخشين الحديث عن "الخصوصية الجسدية" بدافع الخوف من الانتقاد المجتمعي، وحذّرت من أن هذا الصمت يُحوّل الطفل إلى فريسة سهلة لمَن يعرف كيف يستغل الجهل والخوف.

مالك.. حكاية طفل أنقذته أمّ شجاعة

استعرضت رمزي حالة الطفل "مالك"، الذي لم يتجاوز السابعة حين تعرّض لتحرش من أحد الجيران، حيث لاحظت والدته تغيرات مفاجئة في سلوكه، وبعد محاولات مطوّلة، باح الطفل بما حدث، وبينما اختار الأب التستر خوفاً من "الكلام"، أصرت الأم على اللجوء للمسار القانوني والعلاجي، وهو ما اعتبرته رمزي خطوة حاسمة في إنقاذ مستقبل الطفل.

أعربت رمزي عن أسفها لأن الخوف من "الفضيحة" لا يزال يهيمن على سلوك بعض الأسر، مما يحرم الضحايا من الوصول إلى العدالة.. ورأت أن هذا الواقع يعود لضعف التشريعات، وغياب الثقافة الحقوقية، وتقصير الإعلام في تسليط الضوء على جوهر الجريمة.

اختتمت رمزي تصريحها بالتأكيد أن كسر حاجز الصمت ليس ترفاً نسوياً، بل ضرورة إنسانية، وقالت: "كل لحظة صمت تمنح الجاني فرصة جديدة، وكل تواطؤ مجتمعي هو خيانة لطفولة لا ذنب لها"، ودعت إلى وضع الطفل أولاً، قبل أي حسابات اجتماعية أو ثقافية، لأن الحماية تبدأ من الوعي، وتكتمل بالتشريعات والاحتضان المجتمعي الدافئ".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية