من دور الواعظ إلى قفص الاتهام.. هل تسقط أوروبا في اختبار حقوق الإنسان؟

الوجه الآخر للقارة العجوز

من دور الواعظ إلى قفص الاتهام.. هل تسقط أوروبا في اختبار حقوق الإنسان؟
معاناة اللاجئين

في مفارقة صارخة، تقف أوروبا، التي طالما نصّبت نفسها حارسة للقيم الليبرالية والمدافعة الأولى عن حقوق الإنسان عالمياً، اليوم في مرمى الاتهامات ذاتها التي كانت توجهها لغيرها.. تقارير دولية، أبرزها تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2024 تكشف عن تآكل مقلق في المعايير الحقوقية داخل القارة، وسط صعود اليمين المتطرف، واتساع رقعة القمع، وتحول حقوق الإنسان من منجز حضاري إلى عبء سياسي يُتخلّى عنه متى اقتضت المصالح.

وفي أحدث تقاريرها، طالبت منظمة العفو الدولية بإصلاحات عاجلة داخل القارة، محذّرة من انزلاق مقلق في احترام القيم التي لطالما اعتُبرت منجزاً حضارياً تصدّره بروكسل وباريس وبرلين.

وسلط تقرير منظمة العفو الدولية السنوي عن حالة حقوق الإنسان لعام 2024 الضوء على القارة الأوروبية بوصفها واحدة من بؤر التراجع العالمي، في ظل "العدوان الروسي المتواصل على أوكرانيا"، وتوسع نفوذ اليمين المتطرف، وما تبعه من تضييق للحريات وتقويض للحقوق الأساسية.

وأكد خبراء تحدثوا لـ"جسور بوست" أن هذا التراجع لا يُعالج بإصلاحات تجميلية أو تصريحات نوايا، بل يتطلب مشروعاً أوروبياً جديداً يعيد تعريف حقوق الإنسان كأولوية استراتيجية لا كترفٍ أخلاقي يُستغنى عنه عند الأزمات.

تآكل الحقوق

ووفق التقرير، أصبح المشهد الحقوقي في أوروبا قاتماً، مع تصاعد الممارسات الاستبدادية، وانتهاك القانون الدولي الإنساني، وإساءة استخدام قوانين مكافحة الإرهاب والتطرف، إضافة إلى تقييد الحريات الدينية والجنسية، وتراجع حرية المعتقد وحقوق اللاجئين والمهاجرين.

فعلى سبيل المثال، واصلت روسيا شنّ هجمات ممنهجة على البنية التحتية المدنية في أوكرانيا، مع تسجيل خسائر بشرية في صفوف المدنيين تفوق تلك المسجلة عام 2023. 

كما ارتفعت وتيرة قمع الأصوات المعارضة في روسيا وبيلاروسيا وجورجيا، مع تصاعد المضايقات والاعتقالات، وحظر المواد الإعلامية تحت ذريعة "التطرف".

وشهدت دول مثل جورجيا وروسيا وأرمينيا حملات أمنية شرسة ضد المتظاهرين، وصلت إلى حدود اقتحام منازلهم واعتقالهم تعسفياً.. وبعد وفاة المعارض الروسي أليكسي نافالني في ظروف غامضة، اعتُقل المئات بسبب مشاركتهم في مراسم عزائه.

انتهاك الحريات الدينية

كما تحدث التقرير عن انتكاسات واضحة في حرية الدين والمعتقد، حيث أقرت أوكرانيا قانوناً يحظر المنظمات الدينية المرتبطة بروسيا، بينما واجه قساوسة أرثوذكس في روسيا إجراءات عقابية بسبب مواقفهم المناهضة للحرب، واستمر سجن أتباع طائفة شهود يهوه، في حين تعرّض رجال دين في بيلاروس للملاحقة بسبب مواقفهم.

واتهم خبراء تابعون للأمم المتحدة روسيا باتباع سياسة ممنهجة لتعذيب المدنيين الأوكرانيين وأسرى الحرب، كما سجل التقرير استمرار الاكتظاظ وسوء الخدمات الصحية في سجون ألبانيا وإيطاليا، وورود بلاغات عن تعذيب في بلغاريا ومقدونيا الشمالية. 

وبلغت الانتهاكات حد وفاة خمسة سجناء سياسيين في بيلاروسيا خلال عام واحد.

وفي ما يخص المحاكمات، وثّق التقرير استخدام أنظمة قضائية في روسيا وبيلاروسيا وجورجيا لاستهداف المعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان، مع تجاهل واضح لأدلة التعذيب وانتهاكات الإجراءات القانونية.

العنف الأسري

وأفادت أوكرانيا بارتفاع بنسبة 80% في حالات العنف الأسري مقارنة بعام 2023، وفي جورجيا، شُرّع قانون يحمل صبغة رُهاب المثلية والتحوّل الجنسي، مستوحى من مشروع "الدعاية ضد المثليين" الروسي، أما بيلاروسيا، فقد عدلت تعريف المواد الإباحية لتشمل "السلوكيات الجنسية غير التقليدية".

وشهدت بلدان أوروبية مثل رومانيا وإيطاليا وإسبانيا معدلات مرتفعة لجرائم قتل النساء، فيما واجهت النساء المهاجرات والعاملات في مجال الجنس والعابرات جنسياً صعوبات ممنهجة في تقديم شكاوى، وسط تهديدات بالترحيل وحرمان من الحقوق الأساسية.

وفي فرنسا، مُنعت بعض النساء من تقديم شكاوى عن العنف الجنسي، فيما ظل الإجهاض محظوراً تقريباً في بولندا ومقيّداً بشدة في مالطا، بينما واجهت نساء في إنجلترا وويلز ملاحقات قانونية بسبب إجرائهن عمليات إجهاض خارج الإطار الرسمي.

وتعرض الحق في التعليم لانتهاكات في المناطق الأوكرانية المحتلة، وفرضت روسيا قيوداً على التحاق أطفال المهاجرين بالمدارس. 

وفي فنلندا، أضعفت تخفيضات الضمان الاجتماعي قدرة الفئات الضعيفة على تلبية الاحتياجات الأساسية، كما سُجلت حالات فقر مدقع في المملكة المتحدة وإيطاليا، وازدياد في أعداد المشردين بأيرلندا، مع استمرار عمليات الإخلاء في أندورا حتى خلال فصل الشتاء.

مارست كل من سويسرا والنرويج تفتيشاً قائماً على التمييز العنصري، فيما ساهمت الأنظمة الآلية للرعاية الاجتماعية في الدنمارك والسويد وهولندا في تعزيز التمييز ضد النساء والأقليات، وفي فرنسا فُرض حظر على ارتداء الحجاب الرياضي خلال دورة الألعاب الأولمبية 2024.

وفي دول مثل بلغاريا وصربيا ومقدونيا الشمالية، ظلت عملية الإقرار القانوني بالنوع الاجتماعي إما محظورة أو شديدة التعقيد.. كما استمرت موجات التمييز ضد أفراد مجتمع الميم والنساء والأقليات في بولندا وسلوفاكيا.

تراجع كبير

تصدر ملف حقوق اللاجئين والمهاجرين مشهد التراجع الحقوقي في أوروبا، إذ كشف التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية عن استمرار انتهاكات ممنهجة في عدد من الدول الأوروبية. 

وأفاد التقرير بأن سلطات بيلاروسيا واصلت صدّ اللاجئين والمهاجرين على حدودها مع الاتحاد الأوروبي، فيما روّجت روسيا لخطابات مناهضة للمهاجرين، وفرضت بعض مناطقها قيوداً تحظر عمل المهاجرين في مهن محددة. أما إيطاليا فقد حاولت ترحيل طالبي اللجوء الذين أُنقذوا في البحر إلى ألبانيا للنظر في طلباتهم خارج أراضيها.

وفي اليونان، استمرت محاكمة المدافعين عن حقوق الإنسان بسبب مساعدتهم للاجئين والمهاجرين، بينما أعرب ثلاثة خبراء أمميين عن قلقهم إزاء القيود التي تفرضها إيطاليا على أنشطة إنقاذ المهاجرين في البحر، أما في المجر، فقد اللاجئون الأوكرانيون الدعم الحكومي في السكن، في حين تركت أيرلندا وبلجيكا آلاف طالبي اللجوء بلا مأوى.

كما رصد التقرير قيوداً متزايدة على حرية التعبير المرتبطة بالتضامن مع القضية الفلسطينية، حيث فرضت الحكومة البريطانية قيوداً على التعبير، وفتحت السلطات الفرنسية تحقيقات بحق عدد من الأفراد بتهمة "تمجيد الإرهاب". 

كذلك اتخذت إسبانيا إجراءات مماثلة بحق نشطاء مؤيدين لفلسطين. في الوقت نفسه، واصلت دول أوروبية كألمانيا وفرنسا وجمهورية التشيك تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، رغم تصاعد الانتقادات بشأن دور هذه الأسلحة في الانتهاكات الجسيمة.

انقسام أوروبي

ومُلخِصاً تلك الأزمة الحقوقية بأوروبا، أعرب الأكاديمي الفرنسي المتخصص في الشؤون الأوروبية والدولية، بيير لويس ريمون عن اعتقاده بأن هناك انقساما أوروبيا، فهناك أوروبا تقدمية وأوروبا متطرفة.

وقال ريمون في تصريح لـ"جسور بوست" إن "التيارات التي تزعم الحفاظ على القيم التقليدية تشكل خطرا على عودة الاستبداد، مثلا ما نراه في جورجيا والانقسامات الجارية"، في إشارة لصعود اليمين المتطرف.

وأضاف: "لكن أوروبا لا يزال فيها جزء  يحافظ على المجتمع الحقوقي وجزء آخر ينعزل تمام عن القيم الإنسانية للشعوب بدعوات مكافحة الهجرة وقمع المعارضين واتخاذ السيادة الوطنية ذريعة للاستبداد ".

تهدد القيم الأوروبية

في هذا السياق، قال الدكتور ديمتري بريجع، الخبير في الشؤون الأوروبية، إن الحديث عن واقع حقوق الإنسان في أوروبا لم يعد يُقاس بتصريحات السياسيين أو شعارات المؤسسات، بل بما يجري فعلياً على الأرض: من مراكز احتجاز غير إنسانية، إلى قمع الحريات وتنامي نفوذ التيارات اليمينية.

وأوضح بريجع في تصريح لـ"جسور بوست" أن "ما نعيشه اليوم هو أزمة بنيوية داخل النموذج الأوروبي لحقوق الإنسان، كشفتها حرب أوكرانيا لكنها لم تبدأ بها، حيث عرّت الحرب هشاشة الالتزام الأوروبي بالقيم التي طالما اعتبرتها بروكسل وباريس وبرلين منجزاً حضارياً.. فعند المساس بمصالح الناتو أو الأمن القومي تُعلَّق المعايير ويُبرَّر القمع باعتباره ضرراً جانبياً مقبولاً".

وأضاف أن صعود اليمين المتطرف لم يعد مجرد ظاهرة سياسية هامشية، بل تحوّل إلى مشروع حكم في دول مثل إيطاليا والمجر والسويد، ما غيّر لهجة الخطاب الرسمي، وحرّض ضد اللاجئين، وروّج لفكرة أن حقوق الإنسان تهدد الهوية الوطنية.

وحذر بريجع من أن أوروبا لا تزال تقدم نفسها كمرجعية أخلاقية دولية رغم الواقع المتناقض، دون مراجعة جذرية لسياساتها.. هذا التناقض بين الخطاب والممارسة، برأيه، يقوّض شرعية النموذج الأوروبي ويمنح قوى مثل روسيا والصين فرصة للطعن في مصداقيته.

وعدّ تقرير منظمة العفو بمثابة "وثيقة اتهام صريحة للنظام الدولي الليبرالي"، مشيراً إلى أن الانتهاكات لم تعد معزولة، بل أصبحت نمطاً ممنهجاً تغذّيه سياسات القوة وصعود الاستبداد وتواطؤ بعض الديمقراطيات الغربية.

مفارقة غربية

ويرى بريجع أن أوروبا الشرقية، وفي ظل الحرب، أصبحت ساحة لتجريم الرأي ومعاقبة الحركات المدنية، بينما تحولت منظومة الأمن إلى أداة قمع، أما في أوروبا الغربية فالوضع لا يقل خطورة، إذ يجري التضييق على الحريات بحجة مكافحة الإرهاب، ويُقمع المتضامنون مع قضايا عادلة كفلسطين، ويستمر تصدير السلاح إلى دول تُتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

حتى الحقوق الجنسية والإنجابية لم تسلم، كما تفاقمت العنصرية ضد المهاجرين، وتعرضت فئات كاملة للإقصاء من أنظمة الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية، وفق ما أشار إليه التقرير.

وأكد بريجع أن هذه الانتهاكات ليست حالات طارئة، بل هي نتاج تحوّل استراتيجي في النظام العالمي، حيث تُستبدل القيم الحقوقية ببراغماتية قاسية، ويُبرر القمع باسم السيادة، وتُحجب الجرائم خلف شعارات "الخصوصية الثقافية" و"القيم التقليدية".

وأوضح أن هذا التحول أضعف المؤسسات الدولية، وفتح الباب لاستبدال القانون الدولي بمنطق القوة، وخنق الصحافة المستقلة بذريعة الأمن القومي.

وبشأن الحلول، شدد الخبير الأوروبي على أن تجاوز هذا المنعطف يتطلب أكثر من إصلاحات شكلية أو بيانات نوايا، مؤكداً أن أوروبا بحاجة إلى مشروع جديد يعيد تعريف حقوق الإنسان كأولوية استراتيجية، لا ترفاً أخلاقياً يُضحى به عند الأزمات.

واختتم حديثه بالقول: "من دون مساءلة لا معنى للحريات، ومن دون إرادة سياسية جادة لا قيمة للدساتير والمعاهدات.. فأوروبا اليوم أمام اختبار تاريخي: إما أن تنهض من جديد كقدوة عالمية، أو تسقط في فخ النفاق الاستراتيجي الذي طالما أدانته لدى الآخرين".

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية