بين الحصار والرصاص.. المساعدات تتحول إلى فخاخ للموت في غزة
بين الحصار والرصاص.. المساعدات تتحول إلى فخاخ للموت في غزة
قبل أن تنطلق ريم زيدان، الأم الفلسطينية البالغة من العمر 45 عامًا، مع اثنين من أبنائها نحو مركز توزيع الغذاء في غزة، كانت تكرر معهم خطة الطوارئ: “إذا فُقدنا وسط الزحام، هذا هو مكان اللقاء”.. لم تكن تلك محادثة عادية، بل وصيتها الأخيرة.
قبل فجر الثلاثاء، وبينما كانت تقترب من الموقع المنشود بعد ساعات من السير، أصابتها رصاصة إسرائيلية في جبينها.. سقطت أمام عيني ابنها أحمد (12 عامًا) وابنتها ميرفت (20 عامًا)، اللذين بقيا بجوار جثتها ثلاث ساعات تحت وابل من الرصاص وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية.
تقول ميرفت: ذهبنا بدافع الجوع واليأس كانت أمي تمشي ست ساعات يوميًا طول أسبوع، وتعود كل مرة خالية الوفاض.
ذهبت لتُطعم أطفالها، فعادت جثة
في البداية، امتنعت ريم عن الذهاب مجددًا بعد حوادث إطلاق نار وقعت في الأيام السابقة، لكن عندما بكت رزان، ابنتها ذات الخمس سنوات قائلة: "أنا جائعة، الماء لا يملأ بطني"، لم تستطع ريم المقاومة.
كانت ريم تُعد حساءً رقيقًا من حفنة عدس لعشرة أشخاص، لم يكن يكفي. صباح الاثنين، قررت المحاولة مجددًا. قالت لزوجها محمد: “علّنا نحصل على كيلو دقيق واحد فقط”، لكنها عادت ملفوفة في كفن، غارقة بدمها.
“كأن أحدهم انتزع قلبي من صدري”، قال محمد، زوجها منذ 28 عامًا. “ذهبت لتُطعم أطفالها، فعادت جثة”.
عندما بدأ إطلاق النار، ذكّرت ريم أطفالها بمكان الالتقاء، ثم اختفت. شاهد أحمد أمه تسقط على وجهها بعد أن صرخت فتاة خلفه، ركضت ميرفت إليها، لم تصدق موتها، وضعتها على صدرها، حاولت إيقاظها: “قلت لها: أمي، استيقظي، سنزحف معًا، ستكونين بخير لكنها لم تُجب”.
في النهاية، اضطرت ميرفت لترك جثة والدتها مؤقتًا للبحث عن شقيقها الصغير، وبعد ساعات من البحث في مستشفيات غزة، وجدوا ريم جثة مجهولة في مشرحة مستشفى ناصر.
انتشر لاحقًا مقطع مصوّر يُظهر أحمد وهو يبكي ويُعانق جثة والدته، مشهد يُعيد إلى الأذهان مقطعًا سابقًا لريم نفسها، وهي تتعرف إلى جثة ابنها نبيل، الذي قُتل قبل عام في قصف إسرائيلي بقطاع غزة.
فخاخ مميتة بدلًا عن مراكز مساعدات
ريم لم تُقتل صدفة، فقد حذرت منظمات إنسانية مرارًا من أن مراكز توزيع الغذاء التي تديرها جهات مرتبطة بإسرائيل والولايات المتحدة تُحوّل المساعدات إلى “فخاخ مميتة”.
ففي غضون ثلاثة أيام فقط، قُتل 50 فلسطينيًا وجُرح أكثر من 400 خلال محاولتهم الوصول إلى الطعام.
الجيش الإسرائيلي أقر لاحقًا بإطلاق النار قرب مراكز التوزيع، بزعم التصدي لأشخاص “يقتربون بطريقة تهديدية”، لكن شهودًا أكدوا أن الضحايا كانوا مدنيين بينهم أطفال كانوا يبحثون عن الطعام.
يقول محمد: هذه ليست مراكز مساعدات، هذه ساحات إذلال وقتل، الجنود يصوّرون الناس يتقاتلون على الطعام، ثم يُطلقون الغاز لتفريقهم، الناس يبحثون عن المكرونة في الرمال.
وداع مرير وعيد مثقل بالفقد
الأسرة التي كانت تعتمد على ما يتوفر من صدقات وطعام مطابخ خيرية، تفقد الآن الأم التي كانت عمادها، قدوم العيد الذي كان يفترض أن يحمل الفرح، بات مناسبة أخرى للحزن، بعدما فقدوا العام الماضي ابنهم نبيل، واليوم يودّعون ريم.
ميرفت، التي كانت تحلم بدراسة القانون، تحمّلت مسؤولية رعاية إخوتها الصغار بعد وفاة والدتها، وتقول:
“لم أعد أملك مستقبلًا خاصًا، لم أعد أطمح للجامعة، هناك أطفال يعتمدون عليّ”.
وختمت حديثها بالقول: “لا أستطيع تخيّل مائدة العشاء من دون أمي، ماتت وهي تحاول إطعامنا، لن أنسى المشهد ما حييت”.
اندلعت الحرب في غزة في 7 أكتوبر 2023، بعد هجوم مفاجئ شنته حركة حماس على جنوب إسرائيل، أسفر عن مقتل حوالي 1,200 شخص واختطاف أكثر من 200 آخرين، وفقًا للسلطات الإسرائيلية، وردّت إسرائيل بإطلاق عملية عسكرية واسعة النطاق في قطاع غزة، وصفتها بأنها تهدف إلى "تدمير قدرات حماس العسكرية وتحرير الرهائن".
منذ ذلك الحين، شنت إسرائيل حملة جوية وبرية غير مسبوقة على القطاع، أدت إلى دمار واسع النطاق في البنية التحتية السكنية والطبية والتعليمية. ووفقًا لوزارة الصحة في غزة، قُتل أكثر من 50 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وأُصيب عشرات الآلاف، في حين لا يزال آلاف آخرون تحت الأنقاض أو في عداد المفقودين.
أدت الحرب إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة، مع تدمير أكثر من 70% من المنازل، ونزوح أكثر من 1.7 مليون شخص من أصل 2.2 مليون في القطاع، بحسب الأمم المتحدة، كما تعرضت مستشفيات ومراكز إيواء ومدارس للقصف المباشر أو غير المباشر، ما أدى إلى شلل في النظام الصحي.
وفي ظل الحصار المشدد، تدهورت الأوضاع المعيشية بشكل حاد، حيث يعاني السكان من نقص حاد في الغذاء والماء والدواء والوقود، وأطلقت الأمم المتحدة تحذيرات متكررة من "مجاعة وشيكة" في شمال ووسط القطاع.
كما عوّقت القيود الإسرائيلية، وتحديد مواقع توزيع المساعدات تحت حراسة عسكرية، جهود الإغاثة الإنسانية، وفي بعض الأحيان، أدت عمليات توزيع الطعام إلى سقوط قتلى وجرحى بسبب الفوضى أو إطلاق النار، كما حدث في عدة مواقع خلال شهري مايو ويونيو 2025.
وتواجه الجهود الدولية لإقرار وقف إطلاق النار تعثّرًا سياسيًا كبيرًا، في ظل تباين المواقف بين إسرائيل، حماس، والوسطاء الدوليين، ما يُطيل أمد النزاع ويُعمّق الكارثة الإنسانية.