"فورين أفيرز": رسوم ترامب الجمركية تُمهّد لميلاد اقتصاد دولي متعدد الأقطاب
"فورين أفيرز": رسوم ترامب الجمركية تُمهّد لميلاد اقتصاد دولي متعدد الأقطاب
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الثاني من أبريل، والذي أسماه "يوم التحرير"، عن حزمة رسوم جمركية جديدة تهدف إلى إعادة التوازن في التجارة الأمريكية، حيث فرضت الإدارة تعريفات مرتفعة أثارت صدمة الأسواق، وأحدثت موجة بيع ضخمة في البورصات، وهروبًا من الأصول الأمريكية، إلى جانب غضب دبلوماسي وانتقادات من بعض أعضاء الحزب الجمهوري في الكونغرس.
ووفقا لتحليل نشرته مجلة "فورين أفيرز"، اليوم الاثنين، أصدر الرئيس لاحقًا قرارًا بتعليق مؤقت لهذه الرسوم لمدة 90 يومًا لمعظم الدول، ما دفعها إلى التسارع في تقديم عروض تفاوضية تجنبًا للتكاليف المرتفعة، وقد واجهت هذه الإجراءات تحديات قانونية، إذ بدأت المحاكم الأمريكية في مراجعة مدى مشروعية هذه الرسوم، ما زاد حالة الغموض والقلق في المشهد التجاري الدولي.
وألحقت السياسات التجارية غير المنضبطة للإدارة الأمريكية ضررًا ملموسًا بالاقتصاد العالمي، حيث أدى هذا النهج إلى تباطؤ النمو، وارتفاع الأسعار، وتراجع الثقة بمستقبل النظام الاقتصادي الدولي.
ورغم ذلك، حملت رؤية ترامب جانبًا من الحقيقة: النظام التجاري القائم، والذي بُني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح هشًا ويحتاج إلى إعادة ضبط.
وتزايدت شكوك الحزبين الجمهوري والديمقراطي تجاه التجارة الحرة، وتنامى استعداد الحكومات في أنحاء العالم للتدخل في اقتصاداتها تحت مسمى حماية الأمن القومي، وفقد العالم الثقة في آليات النظام التجاري القائم، الذي كانت الولايات المتحدة ركيزته الرئيسية لعقود.
فرصة من رحم الأزمة
تمكّنت الولايات المتحدة، رغم نهج الرئيس المتقلب، من الحفاظ على قوة هيكلية تمكّنها من قيادة إصلاح تجاري عالمي، لا تزال الأسواق العالمية تعتمد على السوق الأمريكية، في حين تظل الصين خيارًا غير مرغوب فيه بالنسبة للعديد من الدول.
سعت معظم القوى الاقتصادية الكبرى إلى تفادي المواجهة، وفضّلت التفاوض مع واشنطن على تحمل الرسوم، رغم ما واجهته من ضغط اقتصادي، قدّم ذلك للولايات المتحدة فرصة استراتيجية لإعادة تشكيل النظام التجاري وفقًا لمصالحها، بدلًا عن مجرد البحث عن مكاسب مؤقتة.
وأسّس الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان بعد الحرب العالمية الثانية نظامًا اقتصاديًا عالميًا يرتكز على الانفتاح والقواعد متعددة الأطراف، وقد أنشأ هذا النظام مؤسسات كالاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة، ومنظمة التجارة العالمية لاحقًا، لتوفير حلول سلمية وعادلة للنزاعات الاقتصادية.
وقادت الولايات المتحدة النظام بصفتها القوة الاقتصادية العظمى، إلا أن المشهد الجيوسياسي تغير، أصبحت الصين اليوم أكبر دولة تجارية من حيث السلع، لكنها استغلت الثغرات في النظام لتعزيز قوتها الصناعية والعسكرية، مع تجاهل لمبادئ الشفافية والمنافسة العادلة.
وبرهنت جائحة كوفيد-19 على هشاشة سلاسل التوريد العالمية، وعزّزت الحاجة إلى إعادة تقييم الترابط الاقتصادي بين الدول، تبنّت الحكومات سياسات أمن اقتصادي تُفضّل الحلفاء، وتتوجس من الخصوم، مما زاد من تفكك نظام "عدم التمييز" الذي ساد في الماضي.
اختلال مبدأ "الأكثر رعاية"
فرضت القواعد الاقتصادية التقليدية التعامل مع جميع الشركاء على قدم المساواة، إلا أن تصاعد الاعتبارات الأمنية والاختلاف في المخاطر، خصوصًا مع الصين، دفع الدول لإعادة النظر في هذا المبدأ.
سمحت القواعد ببعض الاستثناءات بدواعي الأمن القومي، لكنها لم تقدم إرشادات واضحة لكيفية استخدامها، ما قاد إلى تضارب وفوضى.
تحوّلت إدارة ترامب إلى قوة هدم للنظام القائم، وبدت إجراءاتها متخبطة، لكن التحرك الأمريكي أثار محادثات دولية أكثر جدية، وخلق احتمالًا لبناء بدائل أفضل وأكثر واقعية في علاقات التجارة الدولية.
محاكاة الحرب التجارية
أجرى مركز الأمن الأمريكي الجديد تجربة محاكاة لحرب تجارية واسعة، بمشاركة مفاوضين وخبراء من عدة دول، فرض الفريق الأمريكي رسومًا عالية على الشركاء، لكن أبقى الباب مفتوحًا للتفاوض، ما أجبر الفرق الأخرى على الاختيار بين المواجهة أو الحوار.
واستطاع الفريق الأمريكي، في نهاية المحاكاة، بناء كتلة تجارية متكاملة تستثني الصين، رغم التوترات الدبلوماسية.
وأظهرت المحاكاة أن الوصول إلى السوق الأمريكية لا يزال أولوية قصوى لمعظم الدول، حتى في ظل السلوك الأمريكي الاستفزازي.
وأثبتت سياسات ترامب أن فرض التعريفات بلا استراتيجية طويلة المدى يفضي إلى نتائج عكسية، شهدت الأسواق اضطرابات، وأبدت المحاكم الأمريكية والكونغرس إشارات لوقف تفرد البيت الأبيض في فرض الرسوم.
ولم تحقق التعريفات أهدافها كافة، ولم تُسهم إلا جزئيًا في إعادة التصنيع أو تقليل العجز التجاري، ولتحقيق نتائج مستدامة، ينبغي على واشنطن أن تستخدم هذه الإجراءات وسيلة ضغط واضحة، لا غاية عشوائية.
ويمكن للإدارة استخدام أدوات قانونية قائمة مثل المادة 301 و232، والتي تستند إلى تحقيقات رسمية وتسمح بالمراجعة والتخطيط، حيث توفر هذه الأدوات إطارًا أكثر شفافية، وتمكّن القطاع الخاص من التكيف، بدلاً من التعرض لصدمات مفاجئة.
ويتعيّن على واشنطن توضيح ما تنتظره من حلفائها، ووقف حالة الغموض التي تُعقّد التفاهمات الدولي، حيث يُخطئ ترامب حين يظن أن إبقاء الجميع في حالة ترقب يمنحه اليد العليا، بل العكس، ذلك يُضعف الثقة ويقوّض فرص بناء شراكات متينة.
ملامح الهيكل الجديد
ينبغي على الولايات المتحدة إعادة ضبط النظام العالمي لا عبر نسفه، بل بإعادة بنائه وفقًا لواقع جديد يتسم بتعدد القوى، فعلى واشنطن أن تُمهد لاتفاقات مع الحلفاء تُراعي المصالح الأمنية، وتُبقي على التجارة مع الصين في حدود ضيقة ومحددة، تشمل الزراعة وبعض الصناعات الخفيفة.
ويُعدّ فصل الصين عن بعض سلاسل التوريد ضرورة استراتيجية، لكن تعويض هذه الخسائر يتطلب تعزيز التكامل مع الحلفاء عبر استثمارات مشتركة في الصناعة والتكنولوجيا.
وتملك الولايات المتحدة القدرة على تحويل الفوضى إلى فرصة، إذا ما نسّقت مع حلفائها في ضبط الصادرات، ومراجعة الاستثمارات، ومراقبة الأمن السيبراني، فقد تتمكن من صياغة نظام جديد أكثر عدالة ومرونة.