خبراء: إسرائيل تتذرع بالنووي لضرب إيران.. والغرب يعيد سيناريو العراق

خبراء: إسرائيل تتذرع بالنووي لضرب إيران.. والغرب يعيد سيناريو العراق
الهجمات على منشآت إيران النووية

في ظلال تصريحات المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رفائيل جروسي، تتكثّف سحب الشكوك فوق سماء الشرق الأوسط من جديد، حاملة في طياتها رائحة بارودٍ مألوف، وحكاياتٍ لم تُطوَ بعد فصولها منذ سقوط بغداد وحتى اللحظة.

وبين سطور هذا التحذير الذي أطلقه جروسي، تتجلّى معالم مشهدٍ يتكرّر كلما لاحت أزمة نووية في الأفق: اتهامات، تقارير، استنفار سياسي، ثم قرع متسارع لطبول الحرب.

المدير العام للوكالة الذرية لم يكتفِ هذه المرة بمجرد تأكيد الحياد الفني لتقارير وكالته، بل قرّر أن يصرخ في وجه العاصفة: "لا توجد أرضية قانونية أو فنية لضربة عسكرية ضد إيران". هذه الكلمات ليست عابرة، بل صفعة للتيار السياسي الذي يحاول -كما فعل سابقاً في العراق- توظيف الأدوات الرقابية لإضفاء شرعية دولية على قرارٍ لا يتّخذ في أروقة القانون، بل يُطبخ في مطابخ المصالح الكبرى.

فمن أين تبدأ القصة؟ وهل نحن أمام تكرارٍ لتراجيديا بغداد، ولكن بنصّ فارسي هذه المرة؟ أم أن العوائق التقنية والرقابة الدولية المتبقية ستحول دون سقوط قطعة دومينو جديدة في متاهة الشرق الأوسط؟

في تقييم التزام إيران بالاتفاقات الدولية النووية، تتباين الروايات بحسب النوافذ التي يُطل منها المراقب، فإيران لا تنكر تخصيبها لليورانيوم بنسبة تصل إلى 60%، وهو رقم يتجاوز الحد المسموح به في اتفاق 2015 (3.67%)، لكنها تؤكد أن هذه الخطوة جاءت ردًا على انسحاب الولايات المتحدة الأحادي من الاتفاق عام 2018، وليس بداية لمسار تسلّحي.

ووفقًا لتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخيرة، فإن إيران قامت بتركيب أجهزة طرد مركزي أكثر تطورًا، ورفعت من معدلات إنتاجها لليورانيوم المخصب، لكنها في الوقت ذاته أبقت منشآتها تحت رقابة الكاميرات والمفتشين، على الرغم من تقليص مستوى التعاون منذ انهيار الاتفاق. يقول تقرير الوكالة الصادر في يونيو 2025: "لم يُعثر على مؤشرات قاطعة لوجود برنامج تسليحي نووي فعّال، لكن مستوى التخصيب ومواقع التخصيب الجديدة تُشكّل مصدر قلق مستمر".

يطلق المشهد الحالي بين طهران والغرب -في ظل هشاشة التقارير مقابل تصاعد التهديدات- رنين جرس تحذير تاريخي. فبينما تبدو الوقائع الفنية وراء التأكيد على أن إيران لم تخطُ بعد إلى حيازة سلاح نووي، فإن المشهد الجيوسياسي لا يرقى غالباً إلى مستوى هذه الدقة ولا يحترمها. إسرائيل، التي لم تنتظر قرار مجلس الأمن، أقرت أخيراً قيامها بـ "حق الدفاع المسبق"، فشنت هجمات جوية داخل إيران استندت إلى تفسير تقارير الوكالة الذرية التي لا تكشف بصورة نهائية نية إيران الحقيقية.

لم تُخض المعركة في الحقل العلمي اعتباراً، بل في سوق السياسة والمصالح، حيث تُترجم المعلومات الدقيقة إلى "أعذار" تحول دون توقف آلة الحرب. فكما حدث في العراق عام 2003 -حين شنّ الغزو رغم طمأنة المفتشين بعدم وجود أسلحة دمار شامل- يبدو أن الحرب تُقرّر أولاً ثم يتم تبريرها لاحقاً. وتأمل الوكالة اليوم بأن تذكّر العالم بتصريح رفائيل جروسي: "ما نقوله نحن لا علاقة له بقرار الحرب، فهذا قرار سياسي بحت". توثّق المرآة الدولية، لكنها لا توقف البندقية.

تُقارن إيران اليوم بالعراق السابق، وربما ليس تقنيًا فقط، بل تاريخيًا ونفسيًا. من الواضح أن المزاج الدولي أكثر حذراً، وتراجع القبول الشعبي للحرب بعد تجربة بغداد، لكن أوجه الشبه مقلقة: التصعيد الإعلامي عبر تحوير تقارير وكالة الطاقة الذرية، استهداف الكفاءات العلمية -فقد قُتل العديد منهم، منهم دارياني ومينوشهر وعباسي، ولا تزال الأرقام تراوح بين تسعة وأربعة عشر بحسب المصادر- استخدام العقوبات جسراً لتبرير الخيار العسكري، ودور إسرائيل كفاعل غير رسمي- إذ نفّذت نحو خمسين طلعة وأسفرت عن مقتل مئات داخل إيران، بينهم علماء ومدنيون.

لكن إيران ليست العراق. قدراتها الصاروخية المتنامية، وشبكات علاقاتها مع حزب الله وسوريا واليمن، تضع المنطقة أمام احتمال حرب تُحرق فيها الحدود لتلامس تل أبيب وخطوط الملاحة في مضيق هرمز. ما يجعل أي صراع خطراً يتجاوز إسقاط مبانٍ ليصبح مشروع انهيار إقليمي.

أما الأرقام الراهنة، فتمثل دلالة إضافية: وفق تقدير الوكالة وهيئة "معهد العلوم والأمن الدولي" فإن إيران تمتلك بين 408 و456 كجم من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% حتى مايو 2025، بما يعادل إنتاجًا سنويًا يقدّر بـ456 كجم، وزيادة بنحو 133 كجم خلال ثلاثة أشهر فقط . هذا المخزون وحده يكفي من الناحية الفنية لإنتاج ما بين 6 إلى 10 قنابل ذرية إذا جُهِزت بالكامل . كما أن الحقول التقنية تشمل نحو 14.7 ألف من أجهزة الطرد المركزي المتقدمة ضمن إجمالي طاقة يبلغ نحو 21.9 ألف جهاز .

لكن هذه القدرات، رغم ضخامة الأرقام، لا تعني وجود برنامج تسلّحي فعّال؛ فلا دليل رسمي من الوكالة يُثبت وجود بنيات حكومية تعمل من أجل صناعة قنبلة. التصريح المتكرر من الوكالة والمنظمات الاستخباراتية الغربية يؤكد أن إيران بلغت مرحلة "دولة عتبة" قادرة، لكنها لم تُصدر بعد قرار بناء السلاح .

القرار السياسي يمثل القوة الفعلية التي تُسير المؤشرات، لا سجل الوقائع. ففي جنيف، تحاول فرنسا وألمانيا وبريطانيا إعادة إحياء الاتفاق النووي أو على الأقل محاولة تأجيل الخيار العسكري، لكن هذه التحركات تبدو هشة للغاية أمام مشهدٍ عسكري نشط، كما وصفها دبلوماسيون.

والعكس صحيح: إيران تراكم أوراق قوتها دون أن تتجاوز حدودها الحالية. تخصيب 60% رسالة واضحة أنها "ترات ظرفیتها التقنية"، لكنها رسالة لا تتجاوز الدبلوماسية. ومع ذلك، يبقى القلق قائماً – فالتاريخ يعلمنا أن "سقف التخصيب" يمكن أن يصبح "سقف السلاح" ببضعة أشهر إذا قرر القادة السياسيون دفع المسار.

في هذا المناخ، تبدو الرقابة الدولية وكأنها مرآة تفضح الصورة ولا تقودها. إنها أداة ترسل الصرخة لكنها لا تملك يدًا تُمسك بها. القانون الدولي اليوم أقوى فيما يبدو لكنه فعليًا أضعف أمام إرادة المصالح. لم يعد السؤال: هل طهران قادرة على اقتحام الصف النووي؟ بل: هل ستتجرأ قوى السياسة الكبرى أن توزع الصكّ بأن الحرب شرعية؟.

وها هي ذي الولايات المتحدة، في 22 يونيو 2025، تنفذ أول هجوم جوي تاريخي ضد منشآت إيران النووية مستخدمة 12 قنبلة "بونكر باست" و30 صاروخًا من طراز "تومهوك" مستهدفة ثلاث مواقع رئيسية: فوردو، ناتنز، وأصفهان، لتعلن عن نجاح "مسرحي عسكري رائع" . فوردو ضمن جبل، لكن تم تدميره بالكامل حسب تصريحات الإدارة الأمريكية؛ في حين تعتقد بعض الاستخبارات أن حصيلة الضربة شلت البرنامج لعدة سنوات. في المقابل، أشارت أنباء إلى مقتل أكثر من 200 شخص حسب إيران، و408 حسب مصادر إنسانية تطالب بالتحقيق .

في ظل هذا الواقع، القانون الدولي كيان يُعترف به، لكن السياسة هي التي تحكم. تقارير جروسي تبقى صرخات من داخل مرمى الاستنزاف السياسي، وليس مقارعة للسلاح. المرآة تتكسر إن كانت مواجهة مع قوتين، والصوت الذي يصيح "نحن نقول الحقيقة" لا يكفي إذا لم يكن متبوعًا بإرادة دولية مستقلة تحميه.

نهاية التقرير لا تحمل عنوانًا مُعلّقًا، بل تساؤلًا مفتوحًا: هل ستعود العراق مشهدًا يتكرر، أم أن اللحظة الحالية، والردود الأوروبية، والشجاعة السياسية التي قد تظهر، ستكون كافية لتغيير ما امتهنته آلة الحرب؟ أم أننا سنجد، كما قال محمود درويش، أن "الدم يعيد كتابة الجغرافيا"،لهذا غياب الدولة الفاعلة هو الذي سيحدد

برنامج لا يحمل طابعًا عسكريًا

قال الدكتور سيد مكاوي، الخبير في الشؤون الآسيوية، إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية كانت حتى لحظة التصعيد الأخير ملتزمة التزامًا دقيقًا بتعهداتها الدولية في ما يخص برنامجها النووي، مؤكدًا أن شهادات أمريكية رسمية دعمت هذا التقييم.

وأوضح أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية، ممثلة في رئيسة المخابرات الوطنية تولسي جابارد، كانت قد أدلت في مارس الماضي بشهادة أمام الكونغرس أكدت فيها أن إيران لا تسعى لامتلاك سلاح نووي، وأن برنامجها لا يحمل طابعًا عسكريًا.

وأضاف أن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأسبق ويليام بيرنز أكد أن إيران تحتاج إلى أكثر من عام لصناعة قنبلة نووية في حال قررت المضي في ذلك المسار، وثلاث سنوات للوصول إلى الجاهزية الكاملة، مشددًا على أن كل تلك الشروط لم تتحقق.

تكرار سيناريو العراق

وأضاف مكاوي في تصريحات لـ"جسور بوست" أن ما يجري اليوم هو "عدوان إسرائيلي صارخ على دولة ذات سيادة"، يُذكّر بما فعله هتلر حين استباح أوروبا باسم "منطق القوة".

وتابع قائلاً: "تل أبيب لم تعد تحتمل وجود دول مستقرة بجوارها، وتسعى لتفكيك إيران في لحظة من أشد لحظاتها هشاشة استراتيجية، مستندة إلى تفوق عسكري ودعم غربي غير مشروط".

وحذر مكاوي من انخراط الولايات المتحدة كطرف مباشر، مشبهًا الوضع الراهن بسيناريو غزو العراق عام 2003، معتبرًا أن أي مواجهة عسكرية واسعة لن تقتصر على إيران، بل ستحرق الإقليم بأكمله.

ورأى أن المستفيد الوحيد من هذا التصعيد هو بنيامين نتنياهو، الذي "يقامر بمستقبل المنطقة لإنقاذ وضعه الداخلي"، مضيفًا أن هذا المسار يقوض أي فرصة لسلام حقيقي أو لاندماج إسرائيل في محيطها.

"المقاومة حق فطري لا تمنحه قرارات مجلس الأمن"

وشدد مكاوي على أن استخدام القوة، حين يتم برعاية قوة عظمى أو في ظل صمتها، يصبح خارج القانون الدولي.

وقال: "من يحاسب الناتو؟ ومن يردع القوة حين تقرر أن الحق بيد من يملك السلاح؟"، مضيفًا أن التاريخ القريب مليء بسوابق إفلات المعتدين من العقاب في العراق وأفغانستان وصربيا وليبيا.

وختم بالقول إن الشعوب لا تملك أمام هذا الانهيار الأخلاقي والسياسي إلا التمسك بـ"حقها في المقاومة"، مؤكدًا أن الدفاع عن الأرض ليس خيارًا سياسيًا، بل "ضرورة وجودية".

إسرائيل تسعى لتفكيك أي تهديد محتمل

بدوره، قال الدكتور عامر تمام، الباحث المتخصص في الشؤون الآسيوية، إن إيران لا تزال رسميًا طرفًا في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وأن برنامجها النووي لا يزال خاضعًا للرقابة الدولية.

وأشار إلى أن التصعيد الإعلامي والسياسي المحيط بطهران لم ينعكس على أرض الواقع بأي قرار إيراني بالخروج من المعاهدة، وهو ما يؤكد أن النيات العسكرية لم تتبلور فعليًا حتى الآن.

ولفت إلى أن رفع إيران لنسب التخصيب حتى 60% مقلق تقنيًا، لكنه لا يشير إلى مسار نووي عسكري نهائي، إذ يتطلب ذلك نسبة 90% فما فوق، بالإضافة إلى بنية صناعية وعسكرية معقدة لا مؤشرات على وجودها حتى اليوم.

وقال تمام إن إسرائيل تعمل منذ سنوات على تقويض النظام الإيراني، تحت غطاء منع الانتشار النووي، لكنها في الواقع تنفذ استراتيجية تهدف لمنع ظهور أي تهديد لبنيتها العسكرية المتفوقة.

وتابع أن الدولة العبرية ترفض التوقيع على معاهدة منع الانتشار النووي، وتحتفظ بترسانة غير خاضعة لأي رقابة دولية، ما يكشف عن "ازدواجية صارخة في المعايير".

وأكد أن ما يجري اليوم يعيد إلى الأذهان تجربة العراق، قائلاً: "تجاهلت واشنطن تقارير المفتشين الدوليين آنذاك، وذهبت للحرب، واليوم نجد تجاهلًا مماثلًا تجاه تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن إيران".

"نظام دولي مأزوم وبيئة إقليمية متغيرة"

وأشار تمام إلى أن الغرب الذي يدين غزو روسيا لأوكرانيا ويحتفي بالقانون الدولي، هو نفسه الذي يغض الطرف عن الضربات الإسرائيلية في غزة وسوريا وإيران، متسائلًا: "كيف يمكن لمن يعتدي أن يدّعي الدفاع عن النفس؟".

وختم بالقول إن ما يحدث فصل جديد في حكاية مزدوجة المعايير، وإن العالم يقف على أعتاب "مرحلة انتقالية خطِرة" قد تعيد تشكيل موازين القوة، ولكن لن تكون أكثر عدالة ما لم يُفعل القانون الدولي وتُحمى سيادة الشعوب.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية