قوانين بلا تنفيذ.. كيف حوّلت المولدات أحياء لبنان إلى مصانع سرطان
قوانين بلا تنفيذ.. كيف حوّلت المولدات أحياء لبنان إلى مصانع سرطان
بينما تستمر تداعيات الحرب والأزمة الاجتماعية بملاحقة اللبنانيين، تبرز مشكلة إلى الواجهة من جديد، تتمثل بالتلوث، ورغم أن هذه المشكلة ليست جديدة في لبنان فإن موقع Numbeo نشر أخيىا خبراً يفيد بأن لبنان احتل المركز الأول والثالث عالمياً، على مؤشر الموقع، حيث جاء تلوث الهواء البلاد في صدارة أنواع التلوث، وفي وقت، لا قد يعتمد خبراء على تقديرات ذلك الموقع، يبقى أن لبنان من أكثر الدول تلوثا في الشرق الأوسط، رغم أنه مسؤول عن 0.07% فقط من الانبعاثات العالمية.
تلوث في كل مكان
يروي ربيع، مواطن لبناني، في حديثه مع "جسور بوست" معاناته مع التلوث فيقول " استأجرت منزلا وفوجئت بمعمل قربه يصدر دخانًا بسبب المولد الكهربائي. تحدثت مع صاحبه لتقليل الانبعاثات أو تغيير موقع المولّد، لكنه تجاهلنا، حتى أن النائب في البرلمان الذي لجأنا إليه لم يتجاوب. فاضطررنا لترك المنزل تجنبًا للسرطان."
أما حسن يونس فيقول إن "التلوث في لبنان منتشر في كل مكان. فمياه البحر ملوثة بالصرف الصحي، والهواء مشبع بالدخان. حتى أن السحب السوداء غطت بيروت، لا دولة تتحمّل المسؤولية، ولا بلديات تقوم بواجبها"، ويضيف في حديث مع "جسور بوست" قائلا "أصبحنا في لبنان نخشى فتح النوافذ أو السير في الأماكن العامة.. الوضع كارثي."
فرص واعدة رغم الأزمات
يوضح الباحث في مجال الطاقة مارك أيوب أن التجارب السابقة لا توحي بأن لبنان قادر على معالجة أزمة التلوث ولكنه يبدي أملا بأن هناك فرصة "فهناك حديث عن حكومة جديدة وعن إعادة إعمار، وهذا يعطي فرصة لوضع خطة إعمار تكون صديقة للبيئة، بحيث يؤخذ بعين الاعتبار مفهوم الاستدامة." ويركز في حديثه مع "جسور بوست" على ضرورة إعطاء الأولوية لـ “نوعية المواد المستخدمة من وملف الطاقة لجهة معامل الكهرباء وترشيد المياه وغير ذلك.”
ويذكر بأن عوامل عدة، كالحرب وما استخدم فيها من أسلحة، ساهمت في ارتفاع نسب التلوث، مشيرا إلى أنه "لا بد من الاعتماد على الطاقات المتجددة وعدم استخدام الوقود الأحفوري للتحول نحو بيئة أكثر نظافة.. وهذا تحدي قد لا تستطيع الدولة تطبيقه قريبا، فصحيح أن هناك رقابة من مؤسسات دولية بهدف تطبيق هذه المشاريع، إلا أن الأمور قد تأخذ وقتا لتنفذ.. مع أهمية التركيز على أن لا يكون هناك عشوائية في مقاربة الملفات تلك."
وعن حل أزمة الكهرباء فيرى أيوب أن “الإصلاح في هذا القطاع يبدأ من خلال إنشاء معامل صديقة للبيئة وأكثر استدامة من تلك الموجودة حاليا خصوصا وأن لبنان يعتمد على أسوأ مصادر الطاقة.. وعلى ما يبدو فإن التوجه اليوم نحو بناء معامل أكثر صداقة للبيئة من خلال التحول إلى الغاز الطبيعي والى الطاقات المتجددة مثل الشمس والرياح.”
وأما عن القوانين اللبنانية لمكافحة التلوث فيوضح أيوب أنها “عصرية والمشكلة لم تكن يوما فيها بل في التنفيذ. فمثلا، إن المولدات الخاصة لا تلتزم بموضوع التركيب الفلتر (رغم أن القوانين تنص على ذلك). بمعنى آخر، لا يوجد لدينا نقص في القوانين المتعلقة بالبيئة، ولكن بالتأكيد هي بحاجة إلى تطوير. علما أن القول بأهمية تطوير القوانين لا يعني أن لا يتم تطبيقها حاليا.”
ويختم “إن عُمر هذه الحكومة قصير. وبالتالي، لا يمكن معرفة ما هو القدر الذي يمكن أن تنجزه من تلك الخطط، ومع ذلك هناك فرصة لوضع خطة للمستقبل التحول نحو الطاقات المتجددة.. فكل شيء قابل للتنفيذ ولكن العبرة في التطبيق.”
ووفق تقارير، فقد كلف قطاع الكهرباء ديونا تقدر بأكثر من 40 مليار دولار تقريبا، وفي سبيل حل الأزمة، أقدمت الحكومة اللبنانية الحالية على تعيين الهيئة الناظمة للكهرباء، في محاولة لتحقيق الإصلاحات المطلوبة. وفي هذا السياق، وقعت الحكومة اللبنانية مؤخرا اتفاقا مع البنك الدولي للحصول على قرض بقيمة 250 مليون دولار مخصص لتحديث قطاع الكهرباء.
يذكر أن لبنان "وقع لبنان على عدد من الاتفاقيات البيئية الدولية، منها اتفاقية ستوكهولم لحظر المواد الكيميائية الضارة، اتفاقية فيينا وبروتوكول مونتريال لحماية طبقة الأوزون، اتفاقية بازل بشأن النفايات الخطرة، واتفاقية باريس للمناخ، بالإضافة إلى اتفاقية قانون البحار، الاتفاقية الإطارية بشأن التغير المناخي، واتفاقية رامسار لحماية المناطق الرطبة.
التعديلات القانونية ضرورة
توافق الصحفية والناشطة البيئة فاديا جمعة على أنه وبالرغم من عصرية القوانين فإن المشكلة في تطبيقها وتعيد ذلك إلى "نقص الموارد الموارد البشرية والمادية في وزارة البيئة ومحدودية في الصلاحيات التنفيذية، غياب التنسيق بين مؤسسات الدولة، عدم وجود نظام رصد وتقييم نوعية الهواء والتلوث البيئي، الفساد السياسي والمحسوبيات، التغاضي عن المخالفات بيئية جسيمة وضعف القضاء البيئي."
وتوضح الناشطة البيئية أن هناك حاجة إلى تطبيق صارم للقوانين الحالية مع إجراء تحديثات قانونية وتشريعية ومن بينها “تفعيل الرقابة البيئية الدائمة وتحديث شبكة قياس التلوث، وضرورة فرض العقوبات على الجهات الملوثة، وتعزيز الشفافية في الإبلاغ عن المخالفات، وإشراك البلديات والمجتمع المدني في تنفيذ القانون.. وربط المساعدات الدولية بالتطبيق الفعلي للقوانين البيئية.”
وتضيف “وأما يجب تعديله أو إضافته فيشمل إنشاء هيئة وطنية مستقلة للبيئة بصلاحيات تنفيذية، ترفع تقاريرها للبرلمان مباشرة، إيجاد قانون خاص بالمُساءلة البيئية للمؤسسات العامة والخاصة.. تعزيز مختلف القوانين المتعلقة بتغيّر المناخ والطوارئ البيئية وتفعيل قانون لتقييم الأثر البيئي التشاركي يُلزم بإشراك المجتمع المحلي في أي مشروع ذي أثر بيئي.”
صحيا، ترى جمعة أن “المشكلة ليست في غياب النصوص التي تحمي صحة المواطن، بل في غياب التطبيق والمساءلة، ما يؤكد أن لا حماية حقيقية لصحة المواطن على أرض الواقع رغم انتشار الملوِّثات والأمراض..فمثلا لم يُحاسب أي مسؤول أو مؤسسة ملوِّثة بسبب أثرها على الصحة العامة.”
وتنهي بالقول “لبنان لا يزال بعيدًا عن مفهوم العدالة البيئية الصحية.. وبالتالي، فإن حماية صحة المواطن تتطلّب تفعيل قوانين قائمة بمؤسسات مستقلة وشفافة، وتحديث الإطار التشريعي لتضمين الصلة المباشرة بين التلوث والمرض، والاعتراف بأن الحق في الصحة ليس شعارًا بل سياسة يجب أن تُنفّذ ميدانيًا، وخصوصًا في المناطق المهمّشة.”
حمايات سياسية وتواطؤ
يوضح المنسق العام الوطني للتحالف اللبناني للحوكمة الرشيدة مارون الخولي أن "تصنيف أصحاب المولدات بالمافيات يقع في خانة توصيف أي مجموعة محتكرة لمادة أو خدمة او قطاع ولها نفوذ في الدولة أو أي سلطة وضمن مناطق نفوذ تعمل فيها وتعمل فوق القوانين المرعية. وهنا ينطبق هذا الأمر على أصحاب المولدات الذين يحتكرون الكهرباء في الأحياء والمدن المتواجدين فيها بحيث أن أي مشترك يرغب بتغيير اشتراكه إلى مولد آخر لا يستطيع ذلك."
ويتابع الخولي في حديثه مع "جسور بوست" قائلا "وهذا الاحتكار مغطى رسميا من البلديات.. وهم يستعملون أعمدة الكهرباء الرسمية دون مقابل أو ترخيص لتوزيع شبكاتهم الكهربائية الخاصة ويعمدون إلى تلويث الهواء والأرض دون محاسبة أو ملاحقة ويعملون من دون أي منافسة في حماية كاملة لأرباحهم من قبل وزارة الطاقة التي تسعر الفاتورة الكهربائية لهذه المولدات مع ضمان كبير للأرباح."
وفي وقت يشدد على ضرورة حل أزمة الكهرباء، يوضح الخولي أن مافيا المولدات تكسب ملياري دولار سنويا، مشيرا إلى أن "بقائها يعني استمرار للعديد من القوى السياسية الصغيرة والكبيرة منها والتي تتغذى من هذه المافيا في استمرارها في الحكم"، ويضيف " الواقع حمى هذه المافيا سياسيا وجعلها قادرة على الاستمرار دون محاسبة او توقف وعدم إسقاط هذه المافيا يعني عدم إيجاد حل لأزمة الكهرباء في لبنان."
وفي سياق آخر، يرى الخولي أن هناك تواطؤاً بين "شركة كهرباء لبنان" وأصحاب المولدات موضحا أن "التواطؤ يتجلى في عدم قيام شركة كهرباء لبنان بالإفصاح عن برنامج توزيع الكهرباء في المناطق والساعات بشكل واضح وشفاف.. فمعرفة المواطنين أو المؤسسات أو المصانع ببرنامج توزيع الكهرباء وساعات التغذية ستمكنهم من برمجة أعمالهم وحياتهم اليومية وفقاً لهذا الجدول، مما يجعل الإستغناء عن المولدات الخاصة أمرًا ممكنًا وسهلًا لفئة من المشتركين." ويختم "إن إعلان شركة كهرباء لبنان عن برنامج توزيع الكهرباء وساعات التغذية في المناطق، ينهي أكبر معاناة للمواطن ويكسر حلقة التواطؤ مع أصحاب المولدات الخاصة."
وتشير تقارير صحيفة إلى أن عدد المولدات الخاصة في لبنان لا يقل عن 33 ألفا، معظمها منتشر بين الأحياء السكنية ولا تلتزم بأبسط معايير السلامة العامة. وتوفر أغلب تلك المولدات 18 ساعة من التعذية يوميا، بينما تلبي كهرباء الدولة 6 ساعات مما يزيد نسبة الانبعاثات الدخانية.
جهود رسمية رغم الضغوط
رسميا، تكشف عضو لجنة البيئة في البرلمان اللبناني النائب نجاة عون صليبا أن "هناك جدية لدى رئيس الجمهورية والحكومة اللبنانية لملاحقة الفاسدين، إلى جانب وجود خطة واضحة لمعالجة التلوث." وتضيف في حديثها مع "جسور بوست" قائلة “لقد تواصلت مع وزير الطاقة وشاركته بدراسة أعددتها.. وقد أخذ ملاحظاتنا بعين الاعتبار. لقد أضأنا على المواد الكيميائية الموجودة في منشأت نفطية في البلاد وقد لاحق هذا الموضوع.. فعلى ما يبدو أنه تم اختيار شركة لكي تتعامل مع هذه الكيماويات السامة والخطرة وتسفيرها لخارج البلاد.. لتجنب خطرها وما يمكن أن ينتج عنها من انفجارات في ظل الاعتداءات الإسرائيلية.. وهذا يعد انجازا للحكومة اللبنانية.”
وفي وقت تشير إلى وجود تعاون بين وزارات الدولة للحد من التلوث ترى صليبا أن “قضية التلوث تحتاج إلى متابعة.. فلا يجب الاستخفاف بالتعاطي مع من يقدمون على تلويث البيئة.. خاصة وأن الأمور لن تعالج بسرعة.. فالمسألة تحتاج إلى فضح الفاسدين من السلطة التي كانت حاكمة والتي ما تزال حاكمة.. فهناك طبقة سياسية تحاول أن تستفيد من عدم دفع الضرائب للدولة ومن عدم الرجوع عن احتلال الأملاك البحرية أو حتى عن السيطرة على أملاك ليست لها، إلى جانب حماية مافيات تتعدى على المساحات الخضراء”.
وحول قضية المولدات الكهربائية فتقول صليبا "منذ سنتين بدأت شخصياً بحملة على المولدات بالتعاون مع المدعي العام بيئي في بيروت وجبل لبنان.. وقد وصلنا إلى نتيجة ممتازة لجهة لجم الانبعاثات والحد من الأصوات الناتجة عن تلك المولدات.. وهذا نجاح كبير." وتختم “أنا وفريق عملي لن نتوقف، وسنستمر بالمتابعة حتى نصل إلى النتائج المرجوة بأفضل طريقة ممكنة.”
يُذكر أن الدولة اللبنانية أقرت قوانين عدة لمكافحة التلوث ومنها القانون 444/2002 وهو يضع الإطار العام لمكافحة التلوث وتقييم الأثر البيئي، إلى جانب القانون 78/2018 المتعلق بحماية نوعية الهواء.
خطوات عاجلة مطلوبة
توضح مسؤولة عن تلوث الهواء والحملات المجتمعية الإقليمية في "غرينبيس" الشرق الأوسط وشمال إفريقيا سارة بن عبدالله أن "الوضع الحالي ناتج عن عوامل متعددة، منها الفجوات في البنية التحتية، ومحدودية إنفاذ اللوائح البيئية، والصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي أعقبت الانهيار الاقتصادي عام 2019." وتضيف في حديثها مع "جسور بوست" فتقول "وقد زادت حرب 2024 من تفاقم هذه التحديات، موضحة أنه وفقًا للجامعة الأمريكية في بيروت، دمرت حرائق الغابات والأعمال العسكرية أكثر من 10800 هكتار من الأراضي، مما أثر على الزراعة والنظم البيئية الطبيعية والأمن الغذائي." وتتابع “كما أدى تلوث الهواء.. إلى مستويات عالية بشكل خطير من الجسيمات الدقيقة، وخاصة في بيروت، مما ساهم في زيادة مقلقة في سرطان الرئة ومشاكل صحية أخرى.”
وتكشف بن عبد الله أنه “وفقا لمنظمة غرينبيس.. وصل تلوث الهواء في لبنان.. إلى مستويات خطيرة. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الاستخدام الواسع النطاق لمولدات الديزل، إذ أصبحت هذه المولدات مصدرًا رئيسيًا للكهرباء بعد عام 2019 وتنبعث منها الآن مستويات عالية من جسيمات ( (PM2.5، وهي جسيمات دقيقة مرتبطة بمخاطر صحية شديدة.”
وعن المطلوب من الدولة لمعالجة التلوث فترى بن عبدالله أنها تحتاج "وبشكل عاجل إلى التخلي عن مولدات الديزل.. إذ ينبغي تطبيق معايير انبعاثات أكثر صرامة والتخلص التدريجي من الديزل لصالح مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية.. والاستثمار في كهرباء عامة موثوقة ونظيفة، بدلاً من السماح للمولدات الخاصة بالهيمنة. بالإضافة إلى توسيع نطاق رصد جودة الهواء ونشره للعامة لضمان الشفافية."
وتختم "كما تُعد حملات التوعية أمرًا بالغ الأهمية لإعلام المواطنين بالمخاطر الصحية للتلوث، وينبغي أيضا تنفيذ إصلاحات في التخطيط الحضري للحد من انبعاثات حركة المرور وإنشاء مساحات خضراء. فهذه الخطوات ضرورية ليس فقط لحماية البيئة ولكن أيضًا لمنع أزمة الصحة العامة المتزايدة المرتبطة بتلوث الهواء."
وقد أظهرت دراسة جامعية أن حالات سرطان الرئة في بيروت ارتفعت بنسبة 30% بسبب تلوث المولدات. وقد تسبب تلوث الهواء في 2700 وفاة مبكرة عام 2018 في البلاد، وهو من الأعلى في المنطقة، وتجاوزت مستويات ( (PM2.5 في بيروت الحد المسموح به عالميًا إذ وصلت إلى 60 ميكروغرام/متر مكعب، ما يسبب أضرارًا للرئتين والقلب ونمو الأطفال.
وتعاني مدن لبنانية أخرى من تلوث هواء ومياه مرتفع. ففي جونية، يسهم معمل كهرباء الذوق والازدحام المروري في تلوث الهواء، بينما تؤدي مصانع الإسمنت والمقالع والغبار إلى تلوث هواء شكا. وأما في طرابلس، فينتج تلوث الهواء والماء عن المولدات والانبعاثات الصناعية وسوء إدارة النفايات وتلوث نهر أبو علي.